الفرع الثاني: أثر الزحام في التعيين عند الذبح:
لا خلافَ بين أهلِ العلمِ، أنه لا بدَّ من نيةٍ عندَ ذبحِ الهديِ أو نحرِهِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سورة الأنعام: آية:162..
وما رواهُ الشيخانِ"صحيح البخاري، "(1)، مسلم (1907). من حديثِ يحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِ، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ التيميِّ، عن علقمةَ بنِ وقاصٍ الليثيِّ يقولُ: سمعتُ عمرَ بنَ الخطابِ- رضي الله عنه- على المنبرِ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لُكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
والإشكالُ الذي ينتجُ عنِ الزحامِ فيما يتعلقُ بالهديِ هو تحققُ تعيينِ الهديِ، فقد ذكرَ الفقهاءُ أنَّ الهديَ يتعيَّنُ إمَّا بالشراءِ أو بالتعيينِ أو عندَ الذبحِ بالنيةِ"بدائع الصنائع"(5/62)، "مواهب الجليل"(3/255)، "المجموع شرح المهذب"(8/352)، "كشاف القناع" (3/11)..
وبالنظرِ إلى واقعِ عملِ أبرزِ الجهاتِ التي تقومُ على ذبحِ الهديِ- وهو البنكُ الإسلاميُّ للتنميةِ- يمكنُ تلخيصُ آليةِ العملِ في أنَّ البنكَ يقومُ بالتعاقدِ معَ نقاطِ بيعٍ للهديِ موزعةً في كافةِ أنحاءِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، تقومُ هذه النقاطُ ببيعِ سنداتِ الهديِ وتحصيلِ ثمنِهِ منَ المُهدينَ، وهذه السنداتُ يحتوي كلٌّ منها على ثلاثِ قسائمَ: القسيمةُ رقمُ (3) تُسلمُ إلى المُهدِي، والقسيمةُ رقمُ (2) تُسلمُ إلى اللجنةِ الخاصةِ الموكلةِ بالذبحِ، والقسيمةُ رقمُ (1) للمحاسبةِ. بعدَ ذلك تقومُ الجهةُ المُوكَّلةُ بالذبحِ، بتنفيذِ ذبحِ الهديِ وفقَ ما بُلِّغتْ بهِ من نقاطِ البيعِ عن أعدادِ السنداتِ المباعةِ، وهناك آليةٌ للتبليغِ عنِ السنداتِ تكفلُ مراعاةَ زمنِ الذبحِ. فهل يعدُّ هذا كافيًا في تعيينِ الهديِ؟
فالذي يظهرُ أنَّ ذبحَ الوكيلِ كافٍ في التعيينِ، ولو لم يسمِّ الموكِّلُ عندَ الذبحِ، واكتفَى بالنيةِ عمَّنْ وكَّلهُ، وذلك أنَّ في تعيينِ المُوكِّلِ عندَ الذبحِ عُسرًا ومشقةً ظاهرةً، بل قد يكونُ متعذرًا لا سيَّما مع هذه الأعدادِ الكبيرةِ منَ الهدايا التي تبلغُ مئاتِ الآلافِ. قالَ الشيخُ الدكتورُ مصطفى الزَّرقا في توكيلِ البنكِ الإسلاميِّ للتنميةِ في الهديِ ذبحًا وتوزيعًا: ((فالدفعُ إليه مُسبَقًا وتوكيلُهُ بالذبحِ والتوزيعِ يُطمأنُّ معهُ إلى أنهُ سيقومُ بالمُهمَّةِ الشرعيَّةِ في وقتِهَا على الوجهِ الأكملِ، وذلك قياسًا على مَن دفعَ الزكاةَ الواجبةَ عليهِ إلى جابِي بيتِ المالِ، أو إلى المؤسَّسةِ المختصَّةِ في الدولةِ لتوزعَهَا في مصارِفِهَا الشرعيَّةِ؛ فإنَّ الدافعَ تَبرَأُ ذمّتُهُ بهذا الدَّفعِ منَ الزكاةِ الواجبةِ عليهِ باتفاقِ المذاهبِ، ولا سيِّما إذا لوحِظَ أنَّ مُشكلةَ ذبائحِ الهديِ في الحجِّ لا يُمكنُ تنظيمُهَا والقضاءُ على مآسِيها إلا بمثلِ هذا الترتيبِ)) موقع إسلام أون لاين، بنك الفتاوى.
www.islamonline.net/fatwa/arabic/FatwaDisplay.asp?hFatwaID=18385 - 89k.
وقد صدرَ عن هيئةِ كبارِ العلماءِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ قرارٌ رقمُ (121) بتأريخِ 24/10/1404هـ بعدَ اطِّلاعِهِم على محضرِ لجنةِ الاستفادةِ من لحومِ الهديِ والأضاحي الذي كانَ من مُرفقاتِهِ نظامُ الوكالاتِ، جاءَ فيهِ: ((فإنَّ المجلسَ يقررُ أنهُ لا مانعَ شرعًا من توكيلِ الحاجِّ مَن يرتضيهِ وكيلًا عنهُ في شراءِ فديتِهِ أو هديِهِ أو أضحيتِهِ وذبحِها وتوزيعِها، سواءٌ كانَ الوكيلُ واحدًا أو جماعةً)).
وقد نصَّ بعضُ الفقهاءِ المعاصرينَ على أنَّ ذلك من قبيلِ الضرورةِ، ففي جوابِ سؤالٍ عن إعطاءِ الهديِ الشركاتِ، مع كونِهِم لا يأخذونَ أسماءَ أصحابِ الهديِ، أجابَ شيخُنا محمدٌ العثيمينُ رحمَهُ اللهُ تعالى: ((إننا لم نحذِّرْ من إعطاءِ الهديِ؛ لأنَّ الهديَ في الحقيقةِ ضرورةٌ، لأنَّ الإنسانَ بينَ أمرينِ: إمَّا أن يعطيَ هذه الشركاتِ، وإمَّا أن يذبحَهُ ويدعَهُ في الأرضِ، لا ينتفعُ بهِ لا هو ولا غيرُهُ)) "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين "(22/224)..
وقالَ الشيخُ الدكتورُ مصطفى الزَّرقا: ((إذا كانَ القصدُ من تقديمِ الهديِ في الحجِّ ليسَ مجرَّدَ سقيِ الأرضِ بدماءِ الذبائحِ، وتركِ الآلافِ منها مُهدَرةً، بلِ القصدُ الشرعيُّ هو الأكلُ وإطعامُ الجائعِ القانِعِ والمُعْتَرِّ بنصِّ القرآنِ الكريمِ، فهو عبادةٌ ماليَّةٌ ذاتُ مقصدٍ دينيٍّ اجتماعيٍّ ومَبَرَّةٍ، وإذا كانَ هذا المقصدُ الشَّرعيُّ لم يعُدْ منَ الممكنِ أن يتحقَّقَ بسببِ الكثرةِ الهائلةِ في عددِ الحجاجِ من جميعِ أقطارِ العالمِ إلا بمثلِ هذا التنظيمِ الذي قامَ بهِ البنكُ الإسلاميُّ للتنميةِ، فإنَّ الواجبَ عندئذٍ في الذبحِ الفعليِّ من الحاجِّ حيثُ يؤدِّي إلى تلكَ المشكلاتِ منَ الإهدارِ والتقذيرِ، ينتقلُ شرعًا إلى أداءِ قيمةِ الهديِ للجِهةِ الرسميَّةِ أو شبهِ الرسميَّةِ التي تُهيَّأُ للقيامِ بالذَّبحِ والتوزيعِ بتوكيلٍ من الحاجِّ الدافعِ، وهي تُحقِّقُ هذه المهمةَ بصورةٍ لا يستطيعُها الحاجُّ نفسُهُ، إذ توزَّعُ على فقراءَ محليِّينَ وإلى محتاجينَ في جميعِ أقطارِ العالمِ الإسلاميِّ فوريًّا بطائراتٍ مبرَّدةٍ، فبمجردِ أداءِ قيمةِ الهديِ إلى هذه الجهةِ، وتوكيلِها بالتنفيذِ، يتحقَّقُ بهِ الواجبُ الشرعيُّ، إذا تأمَّلْنا ببصيرةٍ شرعيةٍ واعيةٍ قولَهُ تعالى في أمرِ ذبائحِ الهديِ ﴿لَنْ يَنَال اللهَ لُحومُها ولا دماؤُها ولكنْ يَنالُه التَّقْوى مِنْكم﴾ سورة الحج، من آية: 37. ، ولا شكَّ أنَّ التقوى تكونُ أكملَ كلما كانَ تحقيقُ الغايةِ الشرعيَّةِ منَ الأمرِ المكلَّفِ بهِ أكملَ وأشملَ، ولا نظنُّ أحدًا لهُ عقلٌ وعلمٌ يقولُ: إنَّ ذبحَ الهديِ في الحجِّ وطرحَهُ في الأرضِ بينَ الخيامِ هدرًا، دونَ قدرةٍ لصاحبِهِ على توزيعِهِ للقانعِ والمُعْتَرِّ المحتاجِ كما أمرَ القرآنُ، ممَّا يؤدي إلى إنتانِهِ وفسادِهِ وإفسادِ البيئةِ بهِ، كما هو الواقعُ منَ الكثيرينَ)) موقع إسلام أون لاين، بنك الفتاوى.
www.islamonline.net/fatwa/arabic/FatwaDisplay.asp?hFatwaID=18385 - 89k.