الفرع الأول: أثر الزحام في مكان ذبح الهدي وتوزيعه:
ذهبَ جماهيرُ العلماءِ إلى أنَّ مكانَ ذبحِ هديِ التمتعِ والقرانِ الحرمُ ينظر: "بدائع الصنائع"(2/179)، "مواهب الجليل" (3/184)، "المجموع شرح المهذب" (7/482)، "كشاف القناع" (2/460)، "المحلى" (7/155). ، فلا يجزئُ ذبحُهُ خارجَهُ وعند الشافعية قول ثان، يقول بجواز الذبح خارج الحرم شريطة أن يفرق لحمه في الحرم.
ينظر: "مغنى المحتاج" (2/311)، "تحفة المحتاج"(10/95). ، وقد ذكروا في ذلك أدلةً منَ الكتابِ والسنةِ.
والذي يظهرُ أنهُ ليسَ للزحامِ أثرٌ في الذبحِ داخلَ الحرمِ، فإنهُ لا يُتصورُ أن يضيقَ الحرمُ عنِ الذبحِ. لكن يمكنُ أن يظهرَ أثرُ الزحامِ في تفريقِ لحومِ الهديِ في الحرمِ، حيثُ تفوقُ كميةُ اللحومِ حاجةَ المساكينِ، فتتكدسُ كمياتٌ كبيرةٌ منَ اللحومِ لا ينتفعُ منها أحدٌ، بل على العكسِ، فإنها تكونُ عبئًا على الجهاتِ المسؤولةِ عنِ الحجِّ، وذلك بما تسببُهُ من أمراضٍ وتلويثٍ للبيئةِ من جرَّاءِ تعفُّنِ هذه اللحومِ المتكدسةِ وصعوبةِ التخلصِ منها سريعًا، ولذلك صدرتْ توصياتٌ من عدةٍ جهاتٍ بنقلِ ما فاضَ عن حاجةِ فقراءِ الحرمِ منَ اللحومِ إلى خارجهِ، فجاءَ في بحثِ أعدتْهُ اللجنةُ الدائمةُ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ في إطارِ ذكرِ الحلولِ المقترحةِ لعلاجِ مشكلةِ اللحومِ في مِنَى: ((التوسعُ في توزيعِ ما زادَ على فقراءِ الحرمِ خارجَ الحرمِ، ويكونُ إعطاءُ الفقراءِ الذين هم خارجَ الحرمِ بمنزلةِ دفعِ الزكاةِ لفقراءَ في غيرِ بلدِ المالِ إذا أُعطِيَ فقراءِ البلدِ حاجتَهُم، ولم يوجَدْ أحدٌ يستحقُّ، فكذلك الهديُ يُنقلُ إلى فقراءِ البلدانِ المجاورةِ لمكةَ)) "أبحاث هيئة كبار العلماء" بالمملكة العربية السعودية (2/257)..
ونقلُ ما زادَ من لحومِ الهديِ عن حاجةِ فقراءِ الحرمِ، يمكنُ أن يَستنِدَ إلى ما ذهبَ إليهِ فقهاءُ الحنفيةِ"المبسوط" (4/75)، "فتح القدير"(3/79). والمالكيةِ"المنتقى" للباجي (3/14)، "مواهب الجليل" (3/1930). من جوازِ تفرقةِ لحمِ الهديِ خارجَ الحرمِ. بل حتى على القولِ بعدمِ جوازِ تفريقِهِ خارجَ الحرمِ، كما هو مذهبُ الشافعيةِ"روضة الطالبين" (3/187)، "مغني المحتاج" (1/530). والحنابلةِ"الكافي" لابن قدامة (1/428)، "مطالب أولي النهى" (1/365). فلا أظنُّ عالمًا بالشريعةِ وحكمِهَا وأسرارِهَا، يقولُ بمنعِ نقلِ ما زادَ منَ اللحومِ على حاجةِ مساكينِ الحرمِ إلى خارجِهِ، لا سيَّما إذا كانَ مآلُها التركَ إلى أن تفسدَ ثم تُرمَى، فإنَّ ذلك من إضاعةِ المالِ الذي نهَى عنهُ اللهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ.
وقد صدرَ قرارٌ عن مجلسِ هيئةِ كبارِ العلماءِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ برقمِ (77) وتاريخِ 21/10/1400 هـ في الدورةِ السادسةَ عشرةَ لمجلسِ هيئةِ كبارِ العلماءِ المنعقدةِ بالطائفِ، جاءَ فيهِ:
((إنَّ ما يذبحُهُ الحاجُّ ثلاثةُ أنواعٍ:
1 - هدْيُ التمتعِ والقرانِ ، فهذا يجوزُ النقلُ منهُ إلى خارجِ الحرمِ، وقد نَقَلَ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهِم من لحومِ هداياهُم إلى المدينةِ، ففي صحيحِ البخاريِّ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ- رضيَ اللهُ عنهُما- قالَ: كُنَّا لا نأكلُ من لحومِ بُدْنِنا فوقَ ثلاثِ مِنَى، فرخَّصَ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا» فأكلْنا وتزودْنا"صحيح البخاري" (1719)، مسلم (1972)، من طريق جابر بن عبد الله..
2 - ما يذبحُهُ الحاجُّ داخلَ الحرمِ جزاءً لصيدٍ، أو فديةٍ لإزالةِ أذًى، أوِ ارتكابِ محظورٍ أو تركِ واجبٍ- فهذا النوعُ لا يجوزُ نقلُ شيءٍ منهُ؛ لأنهُ كلُّهُ لفقراءِ الحرمِ.
3 - ما ذُبِحَ خارجَ الحرمِ منْ فديةِ الجزاءِ، أو هديِ الإحصارِ، أو غيرِهِما مما يسوغُ ذبحُهُ خارجَ الحرمِ- فهذا يُوزَّعُ حيثُ ذُبِحَ، ولا يُمنعُ نقلُهُ منْ مكانِ ذبحِهِ إلى مكانٍ آخرَ.
وإنَّ المجلسَ يوصِي جميعَ الحجاجِ، بأن يختاروا الجيِّدَ الطيبَ لهداياهُم وذبائحِهِم، وأن يعلموا أنهُ يجبُ عليهِم توزيعُهَا حسب ما شرعَ اللهُ ورسولُهُ، ولا يجوزُ لهم ذبحُهَا وتركُهَا دونَ أن ينتفعَ بها أحدٌ منَ المسلمينَ)) "أبحاث هيئة كبار العلماء" بالمملكة العربية السعودية (7/526)..