الفرع الثاني: أثر الزحام في توسيع موضع الرمي:
لقد بقيتْ الجمارُ على ما كانتْ عليهِ في الزمنِ الأولِ، حيثُ لم يغيَّرْ فيها شيءٌ يذكرُ، وأولُ ما وقفتُ عليهِ منَ التغييرِ ما ذكرَهُ الأزرقيُّ من أنَّ جمرةَ العقبةِ في زمنِ الخليفةِ العباسيِّ المتوكلِ ((أزالَهَا جهالُ الناسِ برميِهِم الحصى، وغُفل عنها حتى أزيحتْ عن موضعِهَا شيئًا يسيرًا منها من فوقِهَا، فردَّهَا إلى موضعِهَا الذي لم تزلْ عليهِ، وبنى من ورائِهَا جدارًا أعلاهُ عليها، ومسجدًا متصلًا بذلك الجدارِ لئلَّا يصلَ إليها مَن يريدُ الرميَ من أعلاهَا)) "أخبار مكة" للأزرقي (1/303)..
وأمَّا الأحواضُ التي على الجمارِ، فإنَّ أولَ حدوثِهَا كانَ عامَ واحدٍ وتسعينَ ومائتينِ وألفٍ منَ الهجرةِ (1291هـ)، وذلك بشبَّاكٍ حديديٍّ، كانَ الغرضُ منهُ دفعُ الزحمةِ عن جمرةِ العقبةِ، لا لتحديدِ مكانِ الرميِ"مجلة العرب"، العدد (7-8)، سنة 22، ص470، حدود حمى المشاعر..
وقدِ اعترضَ على ذلك الشيخُ علي باصبرين وهو علي بن أحمد بن سعيد باصبرين، فقيه شافعي، من حضرموت سكن جدة له مؤلفات نافعة، توفي عام (1304هـ). ينظر: "الأعلام" للزركلي 4/ 260.، فقالَ: ((إنَّ المقصودَ من وضعِ ذاك الشباكِ رفعُ معظمِ زحمةِ الرامينَ، وهو حسنٌ غير أنه بالتحويطِ بذلك الشباكِ على ما يُعتَبُر فيه الرميُ وما لا يُعتبَرُ يحصلُ إيهامُ العوامِّ، فيتوهمونَ أنَّ جميعَ ما أحاطَ بذلك مرمَى، وليسَ الأمرُ كذلك، ودرءُ المفاسدِ مقدمٌ على جلبِ المصالحِ))، واقترحَ لمعالجةِ ذلك ((إحداثُ شباكٍ ثانٍ من حديدٍ ، يكونُ بقدرِ منصوصِ المرمَى المتفقِ عليهِ)) وكذلك أن يوضعَ ((دكةٌ مرتفعةٌ على المرمَى المذكورِ بخصوصِهِ ليميزَ من غيرِهِ ممَّا أحاطَ بالشباكِ الحادثِ من الأرضِ التي لا يجزئُ الرميُ فيها، وإمَّا بإزالةِ هذا الشباكِ الحادثِ الموهِمِ)) "مجلة العرب"، العدد (7-8)، سنة 22، ص471-472، حدود حمى المشاعر..
وبعدَ ذلك أُزِيلَ الشباكُ محلَّ الاعتراضِ، وبُنِيَتْ أحواضٌ حولَ الجمارِ الثلاثِ، وذلك في عامِ اثنينِ وتسعينَ ومئتينِ وألفٍ منَ الهجرةِ (1292هـ)، ثم بقيتِ الحالُ على هذا حتى تجددتِ الحاجةُ لبحثِ الأمرِ، وذلك لكثرةِ عددِ الحجيجِ وشدةِ الزحامِ الحاصلِ عندَ رميِ الجمراتِ.
وبناءً على ذلك، فقد تقدمتِ اللجنةُ العليا للحجِّ باقتراحِ بناءِ حوضٍ خارجيٍّ عنِ الحوضِ الحالي للجمارِ معَ بقاءِ الحوضِ الأولِ ؛ ليجتمعَ فيه الحصَى الذي لا يستوعبُهُ الحوضُ الأولُ، وذلك في عامِ 1393هـ، وأحيلَ إلى هيئةِ كبارِ العلماءِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ التي أعدَّتْ دراسةً كانَ من نتائجِهَا النقاطُ التاليةُ:
((1- أنَّ الأصلَ في تحديدِ المشاعرِ التوقيفُ، ومن نظائرِ ذلك أوقاتُ الصلواتِ الخمسِ.
2- مما يدلُّ على بقاءِ الوضعِ الحالي للجمارِ باعتبارِ المساحةِ استصحابُ العكسِ.
3- لا يجوزُ بناءُ حوضٍ خارجيٍّ أوسعَ منَ الحالِي بناءً على قاعدةِ سدِّ الذرائعِ)) "أبحاث هيئة كبار العلماء" بالمملكة العربية السعودية ( 3/ 285)..
ومنَ الجديرِ بالذكرِ أنه لم يصدرْ عن مجلسِ هيئةِ كبارِ العلماءِ رأيٌ في ذلك، فقد جاءَ في قرارٍ رقم (111): ((ورأتْ بالاتفاقِ أن يؤجلَ النظرُ فيهِ، والبتُّ في حكمِهِ إلى دورةٍ أخرى حتى يصلَ الرسمُ الهندسيُّ لهذا العملِ، والذي سبقَ أن طلبتْهُ الأمانةُ العامةُ لهيئةِ كبارِ العلماءِ؛ لتعرفَ الهيئةُ منه تفاصيلَ الأمرِ المطلوبِ، وهل يحققُ هذا الاقتراحُ مصلحةً من غيرِ استلزامِ مفسدةٍ أم لا؟))"أبحاث هيئة كبار العلماء" بالمملكة العربية السعودية (3/288)..
ولم أقفْ على قرارٍ للهيئةِ بعدَ ذلك، ثم بعدَ تكرُّرِ الحوادثِ عندَ الجمراتِ وكثرةِ الوفـيَّاتِ والإصاباتِ والتضررِ بالزحامِ، عندَهَا جرَى توسيعُ أحواضِ الجمراتِ عامَ خمسٍ وعشرينَ وأربعمائةِ وألفٍ منَ الهجرةِ (1425هـ) فتحوَّلَ الحوضُ الذي كانَ دائريًّا إلى ما يقربُ منَالشكلِ البيضاويِّ، معَ المحافظةِ على أن تقعَ الجمارُ في مكانِ الرميِ المعهودِ وهو مجتمعُ الحصَى.
وأمَّا الحكمُ في توسيعِ أحواضِ الرميِ فالذي يظهرُ أنهُ يمكنُ تخريجُهُ على ما ذكرَهُ فقهاءُ المذهبِ من أنَّ مَن رمَى إلى موضعِ الرميِ فأصابَ شيئًا قبلَهُ ثم وقعتْ في مكانِ الرميِ أجزأَهُ ذلك، وقد صرَّحَ بذلك فقهاءُ المذاهبِ الأربعةِ.
قالَ ابنُ نجيمٍ من فقهاءِ الحنفيةِ: ((ولو وقعتِ الحصاةُ على ظهرِ رجلٍ أو على محملٍ وثبتتْ عليهِ كان عليهِ إعادتُهَا، وإذا سقطتْ عنِ المحملِ أو عن ظهرِ الرجلِ في سننِهَا ذلك أجزأَهُ)) "البحر الرائق" (2/369). ينظر: "فتح القدير" (2/487)..
وقالَ القرافيُّ من فقهاءِ المالكيةِ: ((فلو وقعتْ دونَ الجمرةِ وتدحرجتْ إليها أجزأَهُ، لأنهُ من فعلِهِ)) "الذخيرة" (3/276). ينظر: "المدونة الكبرى" (2/422)، "منح الجليل" (2/291)..
قالَ النوويُّ من فقهاءِ الشافعيةِ: ((ولو انصدمتْ الحصاةُ المرميةُ بالأرضِ خارجَ الجمرةِ أو بمحملٍ في الطريقِ أو عنقِ بعيرٍ أو ثوبِ إنسانٍ ثم ارتدتْ فوقعتْ في المرمَى أجزأتْهُ بلا خلافٍ)) "المجموع شرح المهذب" ( 8/174). ينظر: "تحفة المحتاج" (4/133)..
قالَ المرداويُّ من فقهاءِ الحنابلةِ: ((لو رماها فوقعتْ في موضعٍ صلبٍ في غيرِ المرمَى، ثم تدحرجتْ إلى المرمَى، أو وقعتْ على ثوبِ إنسانٍ, ثم طارتْ، فوقعتْ في المرمَى أجزأتْهُ)) "الإنصاف" (4/34). ينظر: "كشاف القناع "(2/500)..
وغايةُ ما في الرميِ في التوسعةِ الجديدةِ للأحواضِ لا يخرجُ عما ذكرَهُ أولئك الفقهاءُ. فالذي يظهرُ أنه جائزٌ مجزئٌ لا سيَّما مع هذه الأعدادِ الكثيرةِ والزحامِ الشديدِ، واللهُ تعالى أعلمُ.