الفرع الأول: أثر الزحام في بلوغ الحصى موضع الرمي:
أجمعَ أهلُ العلمِ على أنه إذا رمَى فأصابَ مكانَ الرميِ أجزأَ على أيَّةِ حالٍ كانَ الرميُ"الإجماع" لابن المنذر (ص: 37)، "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/279)..
ومع اتفاقِهِم هذا إلا أنهم اختلفوا في تحديدِ مكانِ الرميِ الذي إذا أصابَهُ الرامي أجزأَهُ، ولهم فيهِ مذهبانِ في الجملةِ:
الأولُ: حدُّ مكانِ الرميِ الواجبِ هو مجتمعُ الحصَى، وقد نُقِلَ هذا الحدُّ عنِ الإمامِ الشافعيِّ، قالَ النوويُّ: ((قالَ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ: الجمرةُ: مجتمعُ الحصَى لا ما سالَ منَ الحصَى. فمَن أصابَ مجتمعَ الحصَى بالرميِ أجزأَهُ، ومَن أصابَ سائِلَ الحصَى الذي ليسَ بمجتمعِهِ لم يُجزِهِ، والمرادُ مجتمعُ الحصَى في موضعِهِ المعروفِ، وهو الذي كانَ في زمانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم))"المجموع" (8/140). ، وبهذا قالَ جمهورُ الفقهاءِ منَ المالكيةِ"منح الجليل "(2/291)، "حاشية العدوي" (1/543). والشافعيةِ"نهاية المحتاج" (3/313)، "حاشية قليوبي وعميرة" (2/154). والحنابلةِ"كشاف القناع" (2/501)، " مطالب أولي النهى" (2/421)..
الثاني: ليسَ هناك حدٌّ مُقدَّرٌ في الشرعِ لمكانِ الرميِ، فالواجبُ الرميُ في المكانِ المعروفِ، وكذا يجزئُ ما كانَ قريبًا منها، ويرجعُ في تحديدِ القُرْبِ إلى العرفِ، وقد قدَّرَهُ بعضُهُم بذراعِ وبعضُهُم بثلاثةٍ أذرعٍ، وأطلقَ بعضُهُم ولم يقدِّرْ، وهذا هو قولُ الحنفيةِ"بدائع الصنائع" (2/ 326) ، "البحر الرائق" (2/396)، "فتح القدير" (2/487)..
والأقربُ أنهُ ليسَ هناكَ حدٌّ مقدرٌ لمكانِ الرميِ، فكلُّ مَن قصدَ إلى مكانِ الرميِ في رميِهِ فإنَّ رميَهُ مجزئٌ. فإنه لم يثبتْ في تقديرِ موضعِ الرميِ نصٌّ يستمسكُ بهِ، وليسَ فيهِ عنِ الصحابةِ أثرٌ يصارُ إليهِ.
وممَّا يؤكدُ السعةَ في مكانِ الرميِ أنهُ لم يُعملْ بهذه الجمارِ أكثرَ من وضعِ علاماتٍ عليها تميزُهَا وتدلُّ عليها، فكلُّ ما وردَ إنما هو لتعيينِ المكانِ لا لتحديدِهِ.
فقد أخذَ بعضُ أهلِ العلمِ من قولِ أبي طالبٍ في لاميَّتِهِ الشهيرةِ"البداية والنهاية"(3/54).:
وبالجمرةِ الكبرى إذا صمَّدُوا لها يؤمون قذفًا رأسَهَا بالجنادلِ
أنَّ الجمارَ كانتْ مُعلَّمةً لا سيَّما الكبرى التي ذكرَهَا في قصيدتِهِ"مجلة العرب"العدد (7-8)، سنة 22، ص470، حدود حمى المشاعر، لشيخنا عبد الله البسام..
وقد ذكرَ الأزرقيُّ في أخبارِ مكةَ أنَّ عمرو بنَ لحيِّ نصبَ صنمًا على كلِّ جمرةٍ منَ الجمارِ"أخبار مكة" (2/176) للأزرقي، "أخبار مكة" للفاكهي (4/307).. كما ذكروا علامةً لجمرةِ العقبةِ بأنها عندَ الشجرةِ"تاريخ الطبري" (1/89)، " أخبار مكة" للفاكهي (4/261)..
وقد ذكرَ الفاكهيُّ في أخبارِ مكةَ ذرعَ ما بينَ الجمارِ"أخبار مكة" للفاكهي (4/307)، أخبار مكة للأزرقي (2/185). ، وفي ذلك بيانٌ لمواضعِهَا من غيرِ تحديدٍ لمكانِ الرميِ عندَ كلِّ جمرةٍ.
أمَّا ما ذكرَهُ بعضُ الفقهاءِ من تحديداتٍ لموضعِ الرميِ بالأذرعِ فإنما هي اجتهاداتٌ لتقديرِ سعةِ مجتمعِ الحصَى الذي ذكرَهُ الأكثرونَ. كما أنهُ غيرُ خافٍ أنَّ مجتمعَ الحصَى ليسَ شيئًا منضبطًا من جهةِ قدرِ المساحةِ، بل إنَّ ذلك يختلفُ باختلافِ عددِ الحجيجِ، فإذا كثُرَ الحجاجُ كثُرَ الحصَى فعظُمَ مجتمعُهَا، واللهُ أعلمُ.