المسألة الثانية: أثر الزحام في الإنابة في الرمي:
الأصلُ في النيابةِ في الرميِ ما رواهُ أحمدُ رواه أحمد (13961)، وابن ماجه (3038)، وقد رواه الترمذي (927) بلفظ: ونرمي عن الصبيان، وقال عنه: "هذا حديث غريب. فيه أشعث بن سوار، وهو ضعيف"، وقد ضعف الحديث ابن المُلقِّن في "البدر المنير" (6/317). من حديثِ أبي الزبيرِ، عن جابرٍ، قالَ: "حجَجْنَا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومعنا النساءُ والصبيانُ، فلبَّيْنا عنِ الصبيانِ ورميْنا عنهُم".
وقد أجمعَ أهلُ العلمِ على جوازِ النيابةِ عنِ الصغيرِ الذي لا يقدرُ على الرميِ"المجموع شرح المهذب" (8/269). ، وقد نفى ابنُ عبدِ البرِّ الخلافَ في جوازِ النيابةِ للعذرِ حتى منَ الكبيرِ، قالَ رحمَهُ اللهُ: ((لا يختلفونَ أنه من لا يستطيعُ الرميَ لعذرٍ رُمِيَ عنهُ وإن كبرَ)) "الاستذكار" (4/352)..
فالقولُ بجوازِ النيابةِ عنِ العاجزِ بنحوِ مرضٍ هو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ"بدائع الصنائع"(2/137)، "الذخيرة"(3/280)، "المجموع" (8/218-219)، " الكافي" لابن قدامة (1/382). ؛ لأنَّ علةَ الجوازِ في الصغيرِ هو العجزُ وخوفُ الضررِ. فكلُّ مَن قامَ بهِ هذا الوصفُ ثبتَ لهُ الحكمُ؛ لأنَّ الحكمَ يدورُ معَ العلةِ وجودًا وعدمًا قوةً وضعفًا.
ولا ريبَ أنَّ الرميَ في هذا الزمانِ من أشقِّ المناسكِ وأشدِّها خطرًا وذلك لشدةِ الزحامِ. فلا يخلو عامٌ منَ الأعوامِ غالبًا من حصولِ وفيَّاتٍ وإصاباتٍ بسببِ التدافعِ عندَ رميِ الجمراتِ سواءٌ يومَ النحرِ أو يومَ النفرِ الأولِ.
ولا يخفى أيضًا ما يحصلُ منَ التحامِ الرجالِ بالنساءِ على وجهٍ لا يمكنُ أن تأتيَ بمثلِهِ الشريعةُ فضلًا عن أن تقرَّهُ، وكذلك تكشفُهُنَّ جرَّاءَ التدافُعِ.
ولذلك نصَّ بعضُ فقهاءِ الحنفيةِ على سقوطِ الرميِ عنِ النساءِ من أجلِ الزحامِ، قالَ ابنُ نجيمٍ: ((وقدْ قدمْنا أنَّ المرأةَ لو تركتِ الوقوفَ بالمزدلفةِ لأجلِ الزحامِ لا يلزمُها شيءٌ، فينبغي أنها لو تركتِ الرميَ لهُ لا يلزمُها شيءٌ)) "البحر الرائق" (2/376). بل نصَّ بعضُهُم على أنَّ ذلك لا يختصُّ بالمرأةِ، بل يشملُ الرجلَ إذا خافَ الزحامَ، قالَ ابنُ نُجَيمٍ: ((ولم يُقيِّدْ في المحيطِ خوفَ الزحامِ بالمرأةِ، بل أطلقهُ فشملَ الرجلَ)) "البحر الرائق" (2/376)..
وقد صدرتِ الفتوى عن بعضِ المجامعِ العلميةِ المعاصرةِ، فأفتتِ اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءِ بالمملكةِ العربيةِ السعوديةِ بجوازِ أن توكِّلَ المرأةُ في الرميِ لأجلِ الزحامِ، ففي جوابِ السائلِ عن ذلك قالتِ اللجنةُ: ((يجوزُ عندَ الزحامِ في رميِ الجمراتِ أن توكِّلَ المرأةَ مَن يرمي عنها، ولو كانتْ حجَّتُهَا حجةَ الفريضةِ، وذلك من أجلِ مرضِهَا أو ضعفِهَا، أوِ المحافظةِ على حَملِهَا إن كانتْ حاملًا، وعلى عِرضِهَا وحُرمتِهَا؛ حتى لا تَنتهك حرمتَهَا شدةُ الزحامِ)) "فتاوى اللجنة الدائمة " (11/284-285)..
وفي جوابٍ آخرَ قالتِ اللجنةُ: "قالَ تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ سورة البقرة، آية: (185). ، وقالَ تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ سورة المائدة، آية: (6). ، فالعسرُ والحَرَجُ منفيَّانِ عن هذه الشريعةِ بهاتينِ الآيتينِ، وما جاءَ في معناهُما.
والنساءُ تختلفُ أحوالَهُنَّ: فمنهن الحاملُ، وضخمةُ الجسمِ جدًّا، والهزيلةُ، والمريضةُ، والمُسِنَّةُ العاجزةُ، ومنهن القويةُ.
فأما المرأةُ التي يوجدُ فيها عذرٌ منَ الأعذارِ المشارِ إليها ونحوِهَا فتجوزُ النيابةُ عنها، ولا إشكالَ في ذلك، والذي يرمِي عنها لا ينوبُ عنها إلا بإذنِهَا قبلَ الرميِ عنها، فيرمِي عن نفسِهِ، ثم عنها، وأمَّا القويةُ فإذا حصلتْ مشقةٌ غيرُ مألوفةٍ جازتِ النيابةُ عنها على الوصفِ الذي سبقَ في كيفيةِ النيابةِ، وأنه يرمِي عنها بعد ما يرمِي عن نفسِهِ، والشخصُ الذي يكونُ نائبًا في الرميِ عن غيرِهِ يكونُ منَ الحُجَّاجِ)) " فتاوى اللجنة الدائمة " (11/383- 284)..