الفرع الثاني: أثر الزحام في الرمي أيام التشريق:
الأمرُ الأولُ: أثرُ الزحامِ في وقتِ ابتداءِ الرميِ أيامَ التشريقِ:
لا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما رمَى الجمارَ أيامَ التشريقِ بعدَ الزوالِ، وبهذا جاءتِ الأحاديثُ.
ففي صحيحِ مسلمٍ"صحيح مسلم" (1299). من حديثِ جابرٍ في صفةِ حجِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "رمَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الجمرةَ يومَ النحرِ ضُحًى، وأمَّا بعدُ فإذا زالتِ الشمسُ صلى الله عليه وسلم".
وفي سننِ أبي داودَ"سنن أبي داود" (1973). من حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه، عن عائشةَ قالتْ: ((ثم رجعَ إلى مِنَى، فمكثَ بها ليالِي أيامَ التشريقِ، يرمِي الجمرةَ إذا زالتِ الشمسُ)).
وفي صحيحِ البخاريِّ"صحيح البخاري" (1746). من حديثِ مسعرٍ، عن وَبْرةَ قالَ: سألتُ ابنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما متى أرمي الجمارَ؟ قالَ: إذا رمى إمامَكَ فارمِهِ، فأعدتُ عليهِ المسألةَ قالَ: كنَّا نتحيَّنُ فإذا زالتِ الشمسُ رميْنَا.
وقد حكَى ابنُ عبدِ البرِّ إجماعَ أهلِ العلمِ على أنَّ وقتَ الرميِ في أيامِ التشريقِ بعدَ زوالِ الشمسِ"التمهيد "(17/254). ، ومرادُهُ الوقتُ المجزئُ اتفاقًا، قالَ في الاستذكارِ: ((هذه سنةُ الرميِ في أيامِ التشريقِ عندَ الجميعِ لا يختلفونَ في ذلك)) "الاستذكار" (4/353)..
وقدِ اختلفَ العلماءُ في جوازِ الرميِ في أيامِ التشريقِ قبلَ زوالِ الشمسِ على أقوالٍ ثلاثةٍ:
القولُ الأولُ: لا يجوزُ رميُ الجمارِ أيامَ التشريقِ إلا بعدَ الزوالِ.
وإلى هذا ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ، فبهِ قالَ عطاءٌ"مصنف ابن أبي شيبة" (4/407): روى من طريق ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: لا ترمِ الجمرة حتى تزول الشمس، فعاودته في ذلك، فقال ذلك. ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ"بدائع الصنائع" (2/137-138)، "البحر الرائق" (2/374). ، ومالكٌ"المنتقى" للباجي (3/50)، "الخرشي على مختصر خليل "(2341). ، والشافعيُّ"الحاوي الكبير" (4/194)، "أسنى المطالب" (1/496). ، وأحمدُ"الإنصاف" (4/45)، "شرح العمدة في بيان المناسك" (2/557)..
القولُ الثاني: لا يجوزُ رميُ الجمارِ أيامَ التشريقِ قبلَ الزوالِ إلا في يومِ النفرِ فيجوزُ قبلَ الزوالِ.
وهو قولُ إسحاقَ"المغني" (5/328)، "فتح الباري" (3/580). ، وقولُ أبي جعفرٍ محمدٍ الباقرِ"الاستذكار" (4/353). ، وهو ظاهرُ الروايةِ عن أبي حنيفةَ"بدائع الصنائع" (2/137-138)، " البحر الرائق" (2/374) وقال في" المبسوط" (4/68): "كذلك في اليوم الثالث من يوم النحر، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، وروى الحسن، عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إن كان من قصده أن يتعجل النفر الأول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن رمى بعد الزوال فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال؛ لأنه إذا كان من قصده التعجيل فربما يلحقه بعض الحرج في تأخير الرمي إلى ما بعد الزوال بأن لا يصل إلى مكة إلا بالليل فهو محتاج إلى أن يرمي قبل الزوال ليصل إلى مكة بالنهار فيرى موضع نزوله فيرخص له في ذلك، والأفضل ما هو العزيمة، وهو الرمي بعد الزوال، وفي ظاهر الرواية يقول هذا اليوم نظير اليوم الثاني فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيه بعد الزوال فلا يجزئه الرمي فيه قبل الزوال". ، وهو روايةٌ عن أحمدَ"الإنصاف" (4/45)..
القولُ الثالثُ: يجوزُ رميُ الجمارِ أيامَ التشريقِ قبلَ الزوالِ مطلقًا.
وبهذا قالَ طاووسٌ"التمهيد" (7/272)، "فتح الباري" (3/580). ، ونُقِلَ عن عطاءٍ"التمهيد" (7/272)، فتح الباري (3/580).وقيده بعضهم بالجهل؛ قال العمراني في "البيان" (4/350): "وقال عطاء: إن جهل فرمى قبل الزوال أجزأه))، ولعل هذا يجمع به بين الروايتين عنه. ، وروايةٌ عن أبي حنيفةَ"المبسوط"(4/68)، "بدائع الصنائع"(2/137-138)، "البحر الرائق" (2/374). ، واختارَهُ ابنُ الجوزيِّ"الفروع" (3/518)..
وقدِ احتجَّ كلُّ فريقٍ بحجةٍ تؤيدُ ما ذهبَ إليهِ، فأبرزُ ما احتجَّ بهِ من قالَ بعدمِ جوازِ الرميِ قبلَ الزوالِ فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقولُهُ صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ مسلمٌ"صحيح مسلم" (1297). من طريقِ أبي الزبيرِ عن جابرٍ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ».
أمَّا مَن قالَ بجوازِهِ يومَ النفرِ سواءٌ الثاني عشرَ للمتعجِّلِ أو الثالثَ عشرَ لمَن تأخَّرَ، فاحتُجَّ بأنَّ في ذلك دفعًا للحرجِ ومشقةِ التأخرِ في وصولِ مكةَ وتهيئةِ منزلٍ قالَ الكاسانيُّ: ((لأنه إذا كانَ من قصدِهِ التعجيلُ فربما يلحقُهُ بعضُ الحرجِ في تأخيرِ الرميِ إلى ما بعد الزوالِ، بألَّا يصلَ إلى مكةَ إلا بالليلِ، فهو محتاجٌ إلى أن يرميَ قبلَ الزوالِ ليصلَ إلى مكةَ بالنهارِ، فيرى موضعَ نزولِهِ فيرخَّصُ لهُ في ذلك)) "المبسوط" (4/68)، وينظر: العناية شرح الهداية (3/497)..
وأما مَن أجازَ الرميَ قبلَ الزوالِ مطلقًا فاحتَجَّ بأنَّ الرميَ قبلَ الزوالِ مسكوتٌ عنهُ، والفعلُ لا يقوى على الإيجابِ، بل يدلُّ على الندبِ والاستحبابِ.
والذي يظهرُ لي؛ أنَّ القولَ بجوازِ الرميِ قبلَ الزوالِ قولٌ قويٌّ من حيثُ النظرُ، فليسَ معَ مَن قالَ بعدمِ الجوازِ حُجَّةٌ بينةٌ واضحةٌ تمنعُ الرميَ قبلَ الزوالِ، لا سيَّما والحاجةُ داعيةٌ إلى القولِ بالجوازِ خصوصًا في يومِ النفرِ الأولِ، وهو ثاني أيامِ التشريقِ، لشدةِ الزحامِ وعظيمِ الضررِ الحاصلِ من جرَّاءِ تدافُعِ الناسِ واجتماعِهم لتحيُّنِ وقتِ الرميِ كما لا يخفى. فلا يخلو عامٌ منَ الأعوامِ تقريبًا من وقوعِ وفياتٍ وإصاباتٍ بسببِ هذا الاكتظاظِ والتزاحمِ عندَ رميِ الجمارِ يومَ الثاني عشرَ من ذي الحجةِ، وقد تقدمَ ترخيصُ بعضِ الفقهاءِ في الرميِ قبلَ الزوالِ يومَ النفرِ الأولِ لحاجةِ الوصولِ إلى مكةَ نهارًا، وهي حاجةٌ لا تُذكرُ إزاءَ ما يلحقُ الناسَ اليومَ منَ العناءِ والتعبِ والمشقةِ الشديدةِ في رميِ الجمارِ يومَ الثاني عشرَ من ذي الحجةِ. بل إنَّ ابنَ عمرَ رَوَى حديثَ تحيُّنِ الزوالِ للرميِ لمَّا سألهُ وبرةُ: متى أرمِي الجمارَ؟ كما في صحيحِ البخاريِّ"صحيح البخاري" (1746). قالَ: إذا رمَى إمامُكَ. فلم يقلْ لهُ: ارمِ بعدَ الزوالِ، بل ردَّهُ إلى فعلِ إمامِهِ، وهذا يُشعِرُ بأنَّ في وقتِ الرميِ سعةً يُراعَى فيه تحصيلُ المصلحةِ ودفعُ المضرَّةِ.
وقد قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في قولٍ: إذا رمَى إمامُكَ فارمِهِ: ((يعني الأميرَ الذي على الحجِّ، وكأنَّ ابنَ عمرَ خافَ عليهِ أن يخالفَ الأميرَ فيحصلُ لهُ منهُ ضررٌ)) "فتح الباري" ( 3/580)..
ولا ريبَ أنَّ حفظَ النفسِ من مقاصدِ الشريعةِ وكُلِّياتِهَا، فحفظُ النفسِ ودفعُ الضررِ عنها أولى بالاعتبارِ والنظرِ، منَ العملِ بقولٍ أقوى أدلتِهِ إيماءاتٌ وإشاراتٌ، واللهُ أعلمُ.
الأمرُ الثاني: أثرُ الزحامِ في وقتِ انتهاءِ الرميِ أيامَ التشريقِ:
أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَن رمَى الجمارِ في كلِّ يومٍ من أيامِ التشريقِ قبلَ غروبِ الشمسِ فقد رمَى في الوقتِ التمهيد (17/254)..
واتفقوا أيضًا على أنه مَن أخَّرَ الرميَ حتى تغرُبَ شمسُ يومِ الثالثَ عشرَ فقد فاتَهُ الرميُ، ولا سبيلَ لهُ إلى الرميِ أبدًا" التمهيد" (17/255). ويشكل على هذا الإجماع ما ذكره ابن قدامة في المغني (5/380): ((حكي عن عطاء فيمن رمى جمرة العقبة، ثم خرج إلى إبله في ليلة أربع عشرة، ثم رمى قبل طلوع الفجر، فإن لم يرم أهرق دمًا))..
واختلفوا في آخرِ وقتِ رميِ الجمارِ في كلِّ يومٍ من أيامِ التشريقِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: أنَّ وقتَ الرميِ في كلِّ يومٍ من أيامِ التشريقِ يمتدُّ إلى طلوعِ فجرِ اليومِ التالي، وبهذا قالتِ الحنفيةُ"بدائع الصنائع" (2/137)، "البحر الرائق" (2/371).
تنبيه: ويكون فيما بعد الغروب قضاء. فإن أخَّره عن فجر اليوم التالي فعليه دم عند أبي حنيفة خلافًا لصاحبيه، فعندهما لا جزاء؛ لأن الرمي يمتد إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق. ، والمالكيةُ"المنتقى شرح الموطأ" (3/52)، "شرح الخرشي على خليل" (2/337).
تنبيه: وله الرمي بعد غروب الشمس إلى آخر أيام التشريق، ويكون قضاء، وعليه دم للتأخير في المشهور من المذهب. ، وهو الصحيحُ عندَ الشافعيةِ"البيان" للعمراني (4/352-353)، "المجموع شرح المهذب" (8/211).
تنبيه: ولا يخرج بذلك عن كون الرمي أداء؛ لأن الأيام الثلاثة عندهم كاليوم الواحد في الرمي، ولذلك لو طلع الفجر، وهو لم يرم لليوم السابق فله أن يرميه قبل الزوال قالوا: لأن ذلك أقرب إلى وقته...
القولُ الثاني: أنَّ وقتَ رميِ الجمارِ في كلِّ يومٍ من أيامِ التشريقِ يمتدُّ إلى غروبِ شمسِ ذلك اليومِ، فإنَّ فاتَ رماها غدًا بعدَ الزوالِ، وهذا قولٌ عندَ الشافعيةِ"البيان" للعمراني (4/352)، "المجموع شرح المهذب" (8/211). ، وبهِ قالتِ الحنابلةُ"كشاف القناع" (2/500)، " الإنصاف" (4/46)..
وقدِ استدلَّ كلُّ فريقٍ بأدلةٍ تؤيدُ ما ذهبَ إليهِ، إلا أنَّ أرجحَهَا القولُ بأنَّ رميَ كلِّ يومٍ من أيامِ التشريقِ يمتدُّ إلى فجرِ اليومِ الذي يليهِ إلا يومَ الثالثَ عشرَ فبغروبِ الشمسِ كما تقدمَ.
فإن طلعَ الفجرُ ولم يرمِ رماهُ معَ رميِ اليومِ التالي، وذلك أنَّ الرخصةَ قد جاءتْ في جمعٍ رميُ يومينِ للحاجةِ كما دلَّ عليهِ حديثُ عاصمِ بنِ عديٍّ قالَ: "رخَّصَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لرعاءِ الإبلِ في البيتوتةِ، أن يرموا يومَ النحرِ، ثم يجمعوا رميَ يومينِ بعدَ يومَ النحرِ فيرمونَهُ في أحدِهِما" رواه أحمد (23264)، والترمذي (955)، وابن ماجه (3703)، وقال الترمذي: حسن صحيح..
وعليهِ فإذا كانَ زحامٌ عندَ الرميِ أو في الطريقِ الموصلِ إليهِ، فالذي يظهرُ أنه لا بأسَ بتأخيرِ رميِ اليومِ إلى اليومِ الذي يليهِ للحاجةِ، وهذا الترجيحُ بيِّنٌ على قولِ صاحبَيْ أبي حنيفةَ، ومذهبِ الشافعيةِ، والحنابلةِ؛ لأنَّ وقتَ الرميِ يمتدُّ إلى غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ من أيامِ التشريقِ.
أمَّا على القولِ بأنَّ رميَ كلِّ يومٍ ينتهي بطلوعِ فجرِ اليومِ التالي، كما هو قولُ أبي حنفيةَ ومذهبُ المالكيةِ. فالذي يظهرُ أنهُ يجوزُ التأخيرُ على قولِ الحنفيةِ فقد ذكرَ بعضُ فقهاءِ الحنفيةِ سقوطَ الرميِ بالكليةِ خوفَ الزحامِ قالَ ابنُ نُجَيمٍ: ((وقد قدمْنا أنَّ المرأةَ لو تركتِ الوقوفَ بالمزدلفةِ لأجلِ الزحامِ لا يلزمُهَا شيءٌ، فينبغي أنها لو تركتِ الرميَ لهُ لا يلزمُهَا شيءٌ)) "البحر الرائق" (2/376).. فالتأخيرُ على هذا يجوزُ؛ لأنهُ أولى منَ التركِ. أمَّا على مذهبِ المالكيةِ فلم أقفْ على ما يمكنُ تخريجُ القولِ بالجوازِ عليهِ، فقد قَصَروا الرخصةَ على الرعاةِ دونَ غيرِهِم، وفي قولٍ يلحقونَ السقاةَ. كما أنهم يرونَ أنَّ الرخصةَ في تأخيرِ رميِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ، لا تجيزُ تأخيرَهُ إلى آخرِ أيامِ التشريقِ، بل لو أخَّرهُ لوجبَ دمٌ للتأخيرِ"المنتقى شرح الموطأ" (3/51-52)، "الخرشي على مختصر خليل" (2/337)..