الفرع الأول: أثر الزحام في وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر ابتداء وانتهاء:
الأمرُ الأولُ: أثرُ الزحامِ في وقتِ ابتداءِ رميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ:
اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رمَى جمرةَ العقبةِ ضُحًى يومَ النحرِ" الاستذكار" (4/293). ، ففي صحيحِ مسلمٍ"صحيح مسلم" (1299). من حديثِ ابنِ جريجٍ، عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ قالَ: "رمى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الجمرةَ يومَ النحرِ ضُحًى".
وقد تقدمَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للضعفةِ ومَن في حكمِهِم في الدفعِ ليلةَ النحرِ من مزدلفةَ؛ لأجلِ توقِّي حَطْمَةِ الناسِ وزحامِهِم، ففي الصحيحينِ"صحيح البخاري" (1681)، ومسلم (1290). من حديثِ القاسمِ بنِ محمدٍ، عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: "نزلْنَا المزدلفةَ، فاستأذنتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سودةُ أن تدفعَ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ، وكانتِ امرأةً بطيئةً، فأذِنَ لها فدفعتْ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ".
وقدِ اتفقَ أهلُ العلمِ على أنه لا يجوزُ رميُ جمرةِ العقبةِ أولَ ليلةِ النحرِ، وأنَّ مَن رماها أولَ الليلِ لم تجزئْهُ حكى ذلك جماعة من أهل العلم: منهم ابن رشد في"بداية المجتهد"(1/339)، وابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص:44)، "موسوعة الإجماع" (1/293)..
واختلفوا في أولِ وقتِ رميِ جمرةِ العقبةِ على أقوالٍ ثلاثةٍ:
القولُ الأولُ: أنَّ أولَ وقتِ رميِ جمرةِ العقبةِ بعدَ نصفِ ليلةِ النحرِ، وبهذا قالتِ الشافعيةُ"المجموع شرح المهذب" (8/168)،" أسنى المطالب" (1/493). والحنابلةُ"كشاف القناع" (2/498)، " مطالب أولى النهى" (2/422)..
القولُ الثاني: أنَّ أولَ وقتِ رميِ جمرةِ العقبةِ بعدَ طلوعِ الفجرِ الثاني من يومِ النحرِ، وهو قولُ الحنفيةِ" بدائع الصنائع" (2/138)، "البحر الرائق" (2/371). والمالكيةِ"مواهب الجليل"( 3/136). وروايةٌ عن أحمدَ" الإنصاف" (4/37)..
القولُ الثالثُ: أنَّ أولَ وقتِ رميِ جمرةِ العقبةِ بعدَ طلوعِ الشمسِ، وبهذا قالَ جماعةٌ منَ التابعينَ" المجموع شرح المهذب" (8/177)..
وقدِ استدلَّ كلُّ فريقٍ بأدلةٍ لِمَا ذهبَ إليهِ، وأقربُ هذه الأقوالِ إلى الصوابِ القولُ بأنَّ أولَ وقتِ رميِ جمرةِ العقبةِ هو من وقتِ جوازِ الدفعِ من مزدلفةَ، ويشهدُ لهذا ما في الصحيحينِ رواه البخاري (1679)، ومسلم (1291). من حديثِ ابنِ جريجٍ عن عبدِ اللهِ مولى أسماءَ قالَ: "قالتْ لي أسماءُ وهي عندَ دارِ المزدلفةِ: هل غابَ القمرُ؟ قلتُ: لا. فصلَّتْ ساعةً، ثم قالتْ: يا بنيَّ هل غابَ القمرُ؟ قلتُ: نعم. قالتْ: ارحلْ بي، فارتحلْنَا حتى رمتِ الجمرةَ ثم صلتْ في منزلِهَا. فقلتُ لها: أيْ هنتاهُ، لقدْ غلَّسْنا؟ قالتْ: كلَّا، أي بُنيَّ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ للظُّعُنِ".
وكذلك يؤيدُه ما رواهُ الشيخانِ رواه البخاري (1676)، ومسلم (1295). من حديثِ الزهريِّ، عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ: "أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ كان يقدِّمُ ضعفةَ أهلِهِ، فيقفونَ عندَ المشعرِ الحرامِ بالمزدلفةِ بالليلِ، فيذكرونَ اللهَ ما بدا لهم ثم يدفعونَ قبلَ أن يقفَ الإمامُ، وقبلَ أن يدفعَ، فمنهم مَن يقدمُ مِنَى لصلاةِ الفجرِ، ومنهم من يقدمُ بعدَ ذلك. فإذا قدِمُوا رمَوْا الجمرةَ، وكانَ ابنُ عمرَ يقولُ: أرخصَ في أولئك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم".
فأفادَ الحديثانِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّصَ لمَنْ دفعَ من مزدلفةَ ليلةَ النحرِ منَ الضَّعَفةِ ونحوِهِم، أن يرموا جمرةَ العقبةِ إذا وصلوا مِنَى. فالذي يظهرُ أنَّ الرخصةَ في التقدُّمِ من مزدلفةَ للضعفةِ ونحوِهِم هو اجتنابُ الزحامِ عندَ الرميِ، لا زحامِ الطريقِ، فإنَّ زحامَ الطريقِ موجودٌ في الانصرافِ من عرفةَ ولم تَرِدْ فيه رخصةٌ لأحدٍ.
وأمَّا ما جاءَ منَ النهيِ عنِ الرميِ قبلَ طلوعِ الشمسِ، كالحديثِ الذي رواهُ الخمسةُ رواه أحمد (2083)، وأبو داود (1940)، والترمذي (893)، والنسائي (3065)، وابن ماجه (3025). عنِ ابنِ عباس: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدَّمَ أهلَهُ، وأمرَهُم أن لا يرموا الجمرةَ حتى تطلعَ الشمسُ". فهو حديثٌ اختلفَ أهلُ العلمِ في صحتِهِ هذا الحديث جاء من طرق عن ابن عباس- رضي الله عنه، وقال عنه النووي في "المجموع" (8/166): "رواه بلفظه أبوداود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة"، وقال ابن حجر في "الفتح" (3/528): "وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا"، وقال عنه أيضًا: "وهو حديث حسن".وقد جاء هذا الحديث من طريق الحسن العرني به، وقال عنه الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال عنه ابن عبد الهادي في "المحرر"(1/405): "في إسناده إنقطاع؛ وذلك أن الإمام أحمد قال: لم يسمع الحسن من ابن عباس، وقد روى الترمذي الحديث من طريق المسعودي، عن الحكم، عن مُقْسِم، عن ابن عباس، وقال عنه: حديث حسن صحيح، والمسعودي ثقة اختلط. وقد رواه أبو داود من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء به"، وقد صحح النووي هذه الطريق في" المجموع " (8/153، 157). ، وعلى القولِ بصحتِهِ فيمكنُ الجمعُ بينهُ وبينَ ما دلَّ عليه حديثَا أسماءَ وابنِ عمرَ- رضيَ اللهُ عنهُم- بحملِ أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالرميِ بعدَ طلوعِ الشمسِ على الأفضليةِ والندبِ. فيكونُ ما جاءَ في النهيِ عنِ الرميِ قبلَ طلوعِ الشمسِ للكراهةِ لا للتحريمِ والمنعِ كما قالَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ، قالَ الموفَّقُ ابنُ قدامةَ: ((والأخبارُ المتقدمةُ محمولةٌ على الاستحبابِ)) " المغني" (5/294).. وقالَ النوويُّ: ((وأمَّا حديثُ ابنِ عباسٍ فمحمولٌ على الأفضلِ جمعًا بينَ الأحاديثِ)) "المجموع شرح المهذب" (8/177). ، وإلى هذا ذهبَ ابنُ حجرٍ في الجمعِ بينَ الأحاديثِ فحمَلَ ((الأمرَ في حديثِ ابنِ عباسٍ على الندبِ)). قالَ: ((ويؤيدُهُ ما أخرجًهُ الطحاويُّ من طريقِ شعبةَ مولى ابنِ عباسٍ عنهُ قالَ: "بعثني النبيُّ صلى الله عليه وسلم معَ أهلِهِ، وأمرني أن أرميَ معَ الفجرِ")) "فتح الباري" (3/529)..
الأمرُ الثاني: أثرُ الزحامِ في وقتِ انتهاءِ رميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ:
اختلفَ أهلُ العلمِ- رحمَهُم اللهُ- في الوقتِ الذي ينتهي إليهِ رميُ جمرةِ العقبةِ على ثلاثةِ أقوالٍ في الجملةِ:
القولُ الأولُ: أنَّ وقتَ رميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ يمتدُّ إلى طلوعِ فجرِ يومِ الحادي عشرَ، وبهذا قالتِ الحنفيةُ"بدائع الصنائع "(2/137)، "البحر الرائق" (2/371)، ويكون فيما بعد الغروب قضاء..
القولُ الثاني: أنَّ وقتَ رميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ يمتدُّ إلى غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ من أيامِ التشريقِ، وبهذا قالتِ الشافعيةُ" أسنى المطالب" (1/493)، " مغني المحتاج" (2/271-272)، ولا تخرج بذلك عندهم عن كونها أداء..
القولُ الثالثُ: أنَّ وقتَ رميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ يمتدُّ إلى غروبِ شمسِ ذلك اليومِ، وبهذا قالتِ المالكيةُ"المنتقى شرح الموطأ" (3/52)، "شرح الخرشي على خليل" (2/337)، وله الرمي بعد غروب الشمس إلى آخر أيام التشريق، ويكون قضاء، وعليه دم للتأخير في المشهور من المذهب. ، والحنابلةُ"كشاف القناع "(2/500)، "الإنصاف" (4/46). فإن غربت الشمس قبل رمي الجمرة فإنه يرميها بعد الزوال من الغد، ولا تخرج بذلك عندهم عن كونها أداء، ولا يجب به دم..
وقدِ استدلَّ كلُّ فريقٍ بأدلةٍ تؤيدُ ما ذهبَ إليهِ، إلا أنَّ أرجحَهَا القولُ بأنَّ رميَ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ يمتدُّ إلى ليلةِ الحادي عشرَ، وقد ذكروا لذلك أدلةً أبرزُهَا ما رواهُ البخاريُّ"صحيح البخاري" (1735). من حديثِ عكرمةَ، عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُسأَلُ يومَ النحرِ بمِنَى. فيقولُ: «لَا حَرَجَ». فسألَهُ رجلٌ فقالَ: حلقْتُ قبلَ أن أذبحَ. قالَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ»، وقالَ: رميتُ بعدَ ما أمسيتُ. فقالَ: «لَا حَرَجَ»". والمساءُ يصدقُ على جزءٍ منَ الليلِ في قولِ طائفةٍ من أهلِ اللسانِ، قالَ في لسانِ العربِ: "والمساءُ بعدَ الظهرِ إلى صلاةِ المغربِ: وقالَ بعضُهُم: إلى نصفِ الليلِ""لسان العرب" (15/281) وينظر: العين (7/323)..
فدلَّ هذا على أنَّ رميَ يومِ النحرِ، لا ينقضي بغروبِ الشمسِ، بل يمتدُّ إلى الليلِ"أضواء البيان" (4/455). ، وهذا يدلُّ على سعةِ وقتِ رميِ جمرةِ العقبةِ، فلمَنْ خشيَ الضررَ بالزحامِ أن يؤخرَ الرميَ إلى آخرِ النهارِ، فإنَّ الإجماعَ منعقدٌ علـى أنَّ مَن رماها يومَ النحـرِ قبلَ غروبِ الشمسِ فرميُهُ صحيحٌ قال ابن عبد البر في "التمهيد" (7/268): "وأجمعوا أن من رماها يوم النحر قبل المغيب، فقد رماها في وقت لها، وإن لم يكن ذلك مُستَحْسَنًا له". ، وكذلك لهُ أن يؤخرَ الرميَ إلى الليلِ على الراجحِ؛ لأنه وقتُ رميٍ، واللهُ أعلمُ.