المطلبُ الثالثُ: التوبةُ من هذا النوعِ منَ المكاسبِ:
اختلفَ أهلُ العلمِ في طريقِ التوبةِ منَ المكاسبِ المحرمةِ الحاصلةِ بعقودٍ فاسدةٍ لأجلِ حرمةٍ في العينِ أوِ المنفعةِ التي عقدَ عليها، وقدِ استوفَى الطرفانِ العِوضَ والمعوضَ، على قولينِ:
القولُ الأولُ: يجبُ أنْ يَردَّ الكاسبُ الكسبَ المحرمَ إلى مالكِهِ، إذ هو عينُ مالِهِ، ولم يقبضْهُ قبضًا شرعيًّا، ولا حصلَ لربِّهِ في مقابلتِهِ نفعٌ مباحٌ مدارج السالكين (1/422).
وفي بعضِ كلامِ شيخِ الإسلامِ ما قد يُفهَمُ منهُ هذا؛ ففي مجموعِ الفتاوى لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ (29/307) أنه سُئِلَ:" عن رجلٍ مرابٍ خلَّفَ مالًا وولدًا، وهو يعلمُ بحالِهِ، فهـل يكونُ المالُ حلالًا للولدِ بالميراثِ أم لا؟
فأجابَ: أمَّا القَدْرُ الذي يَعلمُ الولدُ أنهُ ربا فيخرجُهُ، إمَّا أنْ يردَّهُ إلى أصحابِهِ إنْ أمكنَ وإلَّا تصدقَ بهِ، والباقي لا يحرمُ عليهِ...". وفي هذا الكلامِ إشكالٌ فإنَّ ردَّ الربا إلى أصحابِهِ معَ كونِها معاوَضةً فهي مالٌ بمالٍ زائدٍ لأجلِ الأجلِ أو للتفاضلِ يتضمنُ الجمعَ لهم بينَ العِوضِ والمعوّضِ. وقد قرأتُ هذا الكلامَ على شيخِنا ابنِ عثيمين يومَ الاثنينِ30/11/1412هـ (فقالَ: هذا ليسَ من كلامِ شيخِ الإسلامِ؛ لأنهُ يرى عدمَ إرجاعِ المالِ إلى المرابِي. والقولُ بعدمِ الإرجاعِ هو الجاري على سننِ القياسِ، واللهُ أعلمُ). وقالَ عندَ قراءةِ هذا البحثِ عليهِ في حلِّ هذا الإشكالِ: كانَ الشيخُ رحمَهُ اللهُ يرى أنهُ لم يدخلْ مِلكَهُ أصلًا لقولِهِ تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]..
القولُ الثاني: لا يجبُ على الكاسبِ أنْ يردَّ الكسبَ المحرمَ إلى مالكِهِ، بل يجبُ عليهِ أنْ يتصدَّقَ بهِ، ولا يردُّهُ إلى منِ استوفَى عوضَهُ.
وذلكَ لما تقدَّمَ من أنهُ لا يُجمعُ لمنِ استوفَى المنفعةَ المحرمةَ بينَ العوضِ والمعوضِ، فإنَّ في ذلكَ منَ المعونةِ والتقويةِ للفجَّارِ والمعتدينَ ما لا يتناسبُ معَ شرعِ ربِّ العالمينَ.
وقد نُوقِشَ هذا بأنهُ لا تزالُ هذهِ المكاسبُ المحرَّمةُ على ملكِ أصحابِها؛ لأنه قدِ انتقلتْ بعقدٍ فاسدٍ.
وأُجيبَ عن هذهِ المناقشةِ بما ذكرَهُ ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهُ: ((وهبْ أنَّ هذا المالَ لم يملكْهُ الآخذُ، فملكُ صاحبِهِ قد زالَ عنهُ بإعطائِهِ لمَن أخذَهُ، وقد سلَّمَ له ما في قبالتِهِ منَ النفعِ. فكيفَ يُقالُ: مِلكُهُ باقٍ عليهِ، ويجبُ ردُّهُ إليهِ؟!
وهذا بخلافِ أمرِهِ بالصدقةِ بهِ؛ فإنهُ قد أخذَهُ من وجهٍ خبيثٍ برضا صاحبِهِ، وبذلَهُ لهُ بذلكَ، وصاحبُهُ قد رضيَ بإخراجِهِ عن مِلكِهِ بذلكَ وألَّا يعودَ إليهِ، فكانَ أحقُّ الوجوهِ: صرفَهُ في المصلحةِ التي ينتفعُ بها مَن قبضَهُ، ويخففُ عنهُ الإثمَ)) مدارج السالكين (1/422)..
وقالَ أيضًا: ((ولا يلزمُ منَ الحكمِ بخبثِهِ وجوبُ ردِّهِ على الدافعِ فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حكمَ بخبثِ كسبِ الحجَّامِ وذلكَ في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((شَرُّ الكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ))، وهو عند مسلم (1568) وغيره من طريق السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج.، ولا يجبُ ردُّهُ على دافعِهِ)) زاد المعاد (5/779). ذكرَ كلامًا طويلًا ونقاشًا في تقريرِ المسألةِ بعضَهُ عن شيخِ الإسلامِ..
وقد رجَّحَ هذا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَهُ اللهُ، فقالَ: ((فهو كما لو تراضَيَا بمهرِ البغيِّ، وهناك يتصدقُ بهِ على أصحِّ القولينِ لا يُعطَى للزانِي. وكذلكَ في الخمرِ ونحوِ ذلكَ ممَّا أخذَ صاحبُهُ منفعةً محرمةً فلا يجمعُ لهُ العوضُ والمعوض)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 291- 292)..
وقالَ في موضعٍ آخرَ: ((فهنا- أي مهرُ البغيِّ وثمنُ الخمرِ– لا يُقضَى لهُ بهِ قبلَ القبضِ، ولو أعطاهُ إياهُ لم يحكمْ بردِّهِ فإنَّ هذا معونةٌ لهم على المعاصي إذا جُمِعَ لهم بينَ العوضِ والمعوضِ ولا يحلُّ هذا المالُ للبغيِّ والخمَّارِ ونحوِهِما لكن يُصرفُ في مصالحِ المسلمينَ)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 309)..
فإنْ كانَ كاسبُ هذه المكاسبِ المحرمةِ فقيرًا ذا حاجةٍ فإنه يجوزُ لهُ من هذا المالِ بقدرِ حاجتِهِ.
قالَ النوويُّ رحمَهُ اللهُ فيما نقلَهُ عن كلامِ الغزاليِّ في التصرُّفِ في الكسبِ الحرامِ: ((ولهُ أنْ يتصدقَ بهِ على نفسِهِ وعيالِهِ إذا كانَ فقيرًا؛ لأنَّ عيالَهُ إذا كانوا فقراءَ، فالوصفُ موجودٌ فيهم, بل هم أولى مَن يَتصدقُ عليهِ, ولهُ هو أنْ يأخذَ منهُ قدرَ حاجتِهِ لأنهُ أيضًا فقيرٌ.
وهذا الذي قالَهُ الغزاليُّ في هذا الفرعِ ذكرَهُ آخرونَ منَ الأصحابِ, وهو كما قالوهُ)) المجموع شرح المهذب (9/428-429، 430)..
قالَ ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهُ: ((وتمامُ التوبةِ بالصدقةِ بهِ. فإنْ كانَ محتاجًا إليهِ فلهُ أنْ يأخذَ قدرَ حاجتِهِ، ويتصدقَ بالباقي. فهذا حكمُ كلِّ كسبٍ خبيثٍ لخُبثِ عوضِهِ عينًا كان أو منفعةً)) زاد المعاد (5/779)..
ولشيخِ الإسلامِ -رحمَهُ اللهُ- كلامٌ جيدٌ قرَّرَ فيهِ معنى الكلامِ المتقدمِ، قالَ رحمَهُ اللهُ: ((فإنْ تابَتْ هذهِ البغيُّ، وهذا الخمَّارُ، وكانوا فقراءَ جازَ أنْ يُصرفَ إليهم من هذا المالِ مقدارَ حاجتِهِم.
فإنْ كانَ يقدرُ أنْ يتَّجرَ أو يعملَ صنعة ًكالنسيجِ والغزلِ أُعطِيَ ما يكونُ له رأسُ مالٍ. وإنِ اقترضوا منهُ شيئًا؛ ليكتسبوا بهِ، ولم يردُّوا عوضَ القرضِ كانَ أحسنَ مرادُهُ أحسنُ من كونِهِم يأخذونَهُ على سبيلِ التملُّكِ؛ لأنَّ لهم طريقينِ أنْ يأخذوهُ على سبيلِ التملُّكِ، وهذا جائزٌ أو يأخذوهُ على سبيلِ الاقتراضِ، وهذا أحسنُ كما يقولُ الشيخُ وصوابُ العبارةِ أنْ يقالَ: "وإن اقترضوا منهُ شيئًا؛ ليكتسبوا بهِ، ويردوا عوضَ القرضِ كانَ أحسنَ"..
وأمَّا إذا تصدقَ بهِ لاعتقادِهِ أنهُ يحلُّ لهُ أنْ يتصدقَ بهِ فهذا يُثابُ على ذلكَ.
وأمَّا إنْ تصدقَ بهِ كما يتصدقُ المالكُ بملكِهِ فهذا لا يقبلُهُ اللهُ؛ إنَّ اللهَ لا يقبلُ إلا الطيِّبَ، فهذا خبيثٌ كما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 309). والحديث عند مسلم (1568) وغيره، من طريق السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج..