المطلبُ الثاني: ملكُ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ:
الكاسبُ في هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ لا يخلو من حالينِ من حيثُ ثبوتُ ملكِهِ لهذهِ المكاسبِ:
الحالُ الأولى:
أنْ يعتقدَ الكاسبُ إباحةَ هذهِ المكاسبِ أو لا يعلمَهُ.
فهذهِ المكاسبُ يملكُ الكاسبُ منها ما قبضَهُ إذا كانَ يجهلُ التحريمَ انظر تفصيل هذا وأمثلته في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/411-412). وقدِ استدلَّ شيخُنا لهذا القسمِ بقولِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾.البقرة: من الآية (75).. بخلافِ ما لم يقبضْهُ فلا يثبتُ ملكُهُ لهُ.
والأصلُ في ذلكَ قولُ اللهِ تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ﴾ البقرة:275.. فمن لم يبلغْهُ التحريمُ فلا إثمَ عليهِ، ولهُ ما قبضَ.
قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السعديُّ: ((اللهُ تعالى لم يأمرْ بردِّ المقبوضِ بعقدِ الربا بعدَ التوبةِ. وإنما أمرَ بردِّ الربا الذي لم يُقبَضْ، وأنهُ قُبضَ برِضَى مالكِهِ فلا يشبهُ المغصوبَ.
ولأنَّ فيه منَ التسهيلِ والترغيبِ في التوبةِ ما ليسَ في القولِ بتوقيفِ توبتِهِ على ردِّ التصرفاتِ الماضيةِ مهما كثُرَتْ وشقَّتْ واللهُ أعلمُ)) الفتاوى السعدية ص: (303)..
قالَ الشيخُ الشنقيطيُّ رحمَهُ اللهُ في تقريرِ هذا المعنى: ((ويؤخذُ من هذهِ الآيةِ الكريمةِ أنَّ اللهَ لا يؤاخذُ الإنسانَ بفعلِ أمرٍ إلا بعدَ أنْ يحرِّمَهُ عليهِ، وقد أوضحَ هذا المعنى في آياتٍ كثيرةٍ:
فقد قالَ في الذين كانوا يشربونَ الخمرَ، ويأكلونَ مالَ الميسرِ قبلَ نزولِ التحريمِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ﴾.. الآية المائدة: 93..
وقالَ في الذين كانوا يتزوجونَ أزواجَ آبائِهِم قبلَ التحريمِ: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ النساء:22.، أي: لكنْ ما سلفَ قبلَ التحريمِ، فلا جناحَ عليكُم فيهِ. ونظيرُهُ قولُهُ تعالى: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ النساء: 23..
وقالَ في الصيدِ قبلَ التحريمِ: ﴿عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف﴾ المائدة:95..
وقالَ في الصلاةِ إلى بيتِ المقدسِ قبلَ نسخِ استقبالِهِ: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ البقرة:143.. أي: صلاتَكُم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ النسخِ.
ومن أصرحِ الأدلةِ في هذا المعنى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ والمسلمينَ لمَّا استغفروا لأقربائِهِم الموتى منَ المشركينَ، وأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم﴾ التوبة:113.، وندمُوا على استغفارِهِم للمشركينَ، أنزلَ اللهُ في ذلكَ: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ التوبة:115.، فصرَّحَ بأنهُ لا يضلُّهُم بفعلِ أمرٍ إلا بعدَ بيانِ اتِّقائِهِ)) أضواء البيان (1/188)..
وقالَ الجصاصُ في معنى الآيةِ: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ﴾ البقرة:275. : ((فالمعنى فيهِ أنَّ مَنِ انزجرَ بعدَ النهيِ فلهُ ما سلفَ منَ المقبوضِ قبلَ نزولِ تحريمِ الربا، ولم يُردْ به مالم يُقبَضْ؛ لأنهُ قد ذكرَ في نسقِ التلاوةِ حظْرَ ما لم يُقبَضْ منهُ، وإبطالَهُ بقولِهِ تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾ البقرة:278.، فأبطلَ اللهُ منَ الربا مالم يكنْ مقبوضًا، وإنْ كان معقودًا قبلَ نزولِ التحريمِ، ولم يتعقبْ بالفسخِ ما كانَ منهُ مقبوضًا بقولِهِ تعالى: ﴿مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ﴾ البقرة:275.. وقد روِيَ ذلك عن السديِّ وغيرِهِ منَ المفسرينَ.
وقالَ تعالى: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾ البقرة:278.، فأبطلَ منهُ ما بقيَ ممَّا لم يُقبَضْ ولم يُبطِلْ المقبوضَ، ثم قالَ تعالى: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ البقرة:279.، وهو تأكيدٌ لإبطالِ ما لم يُقبَضْ منهُ، وأخْذِ رأسَ المالِ الذي لا ربا فيهِ، ولا زيادةً.
وروِيَ عنِ ابنِ عمرَ وجابرٍ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنهُ قالَ في خطبتِهِ يومَ حجةِ الوداعِ بمكةَ، وقالَ جابرٌ بعرفاتَ: ((إِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)). فكانَ فعلُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مواطئًا لمعنى الآيةِ في إبطالِ اللهِ تعالى الربا، مالم يكنْ مقبوضًا، وإمضائِهِ ما كانَ مقبوضًا)) أحكام القرآن للجصاص (2/190)..
وممَّا يندرجُ في هذهِ الحالِ ما اعتقدَ الكاسبُ حلَّهُ بتأويلٍ سائغٍ منِ اجتهادٍ أو تقليدٍ؛ كبعضِ المعاملاتِ التي يبيحُها بعضُ أهلِ العلمِ ويحرمُها آخرونَ؛ أو بيوعِ الغررِ المنهيِّ عنها عندَ مَن يجوِّزُ بعضَها. فإنَّ هذهِ المكاسبَ إذا قُبضَتْ معَ اعتقادِ الصحةِ مَضَتْ، ولم تُنقَضْ بعدَ ذلكَ لا بحكمٍ، ولا برجوعٍ عن ذلكَ الاجتهادِ مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/412-413)، الاختيارات الفقهية ص: (167). قالَ شيخُنا: وهذا هوَ الصحيحُ لأنه يعتقدُ الصحةَ، وقد تمَّ العقدُ، والاجتهادُ لا يُنقَضُ بالاجتهادِ، وحتى لو بانَ له فيما بعدُ فسادُ العقدِ فهو معذورٌ، ولو كانَ ذلكَ بتقليدٍ لمَن لا يستطيعُ إلا التقليدَ فإنهُ معذورٌ؛ لأنَّ هذا فرضُهُ..
الحالُ الثانيةُ:
أنْ يعتقدَ فسادَها، ويعلمَهُ مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/411)..
لا خلافَ بينهم في أنَّ ما لم يقبضْهُ الكاسبُ في هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ لا يثبتُ ملكُهُ لهُ كما تقدمَ تقريرُهُ في الحالِ السابقةِ.
أمَّا ما قبضَهُ الكاسبُ منَ المكاسبِ المحرمةِ بعقدٍ فاسدٍ كالربا، والميسرِ، وثمنِ الخمرِ، ونحوِها فلأهلِ العلمِ في ثبوتِ ملكِهِ لها ثلاثةُ أقوالٍ:
القولُ الأولُ: أنَّ قبضَ الكاسبِ هذهِ المكاسبَ المحرمةَ يفيدُ خروجَهُ من ملكِ باذلِهِ، إذا كانَ بإذنٍ منهُ. وهذا مذهبُ الحنفيةِ بدائع الصنائع (5/299)، شرح فتح القدير (6/459)، كشف الأسرار (1/267). ولهم في ذلك تفصيلٌ تميَّزوا بهِ؛ وهو التفريقُ بين الباطلِ والفاسدِ منَ العقودِ، فجعلوا الباطلَ لا يثبتُ بهِ الملكُ بخلافِ الفاسدِ فإنهُ يثبتُ بهِ الملكُ.. وهو روايةٌ في مذهبِ أحمدَ أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/575)، الإنصاف (4/362). قالَ شيخُنا: الظاهرُ أنهُ متى أمكنَ ردُّهُ وجبَ عليهِ ردُّهُ، وإذا لم يمكنْ بأنِ انتقلَ ملكُهُ وباعَهُ، فهو يفيدُ الملكَ يعني العبرةُ بالمشقةِ.، اختارَها شيخُ الإسلامِ ابن تيميةِ الفروع (6/449)، الإنصاف (11/213-214)، كشاف القناع (3/134). وقال في الإنصاف (4/473):" قالَ في الفائقِ: قالَ شيخُنا: يترجحُ أنهُ يملكُهُ بعقدٍ فاسدٍ". انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/292، 327)..
القولُ الثاني: أنَّ قبضَ الكاسبِ هذهِ المكاسبَ المحرمةَ لا يفيدُ الملكَ مطلقًا، سواءٌ أكانَ بإذنٍ منَ المالكِ أم لا. وهذا قولٌ عندَ الحنفيةِ أحكام القرآن للجصاص (2/245)، بدائع الصنائع (5/299).، وهوَ مذهبُ المالكيةِ الفروق (2/83)، (3/208)، الفواكه الدواني (2/130). وقد ذكرَ بعضُهُم تفصيلًا فقالوا: إنَّ قبْضَ الكاسبِ هذه المكاسبَ المحرمةَ يفيدُ الملكَ إنْ فاتتْ أو تغيَّرَ سوقُها، وإلا فإنهُ لا يفيدُ الملكَ، بل هي باقيةٌ على ملكِ أصحابِها.،
والشافعيةِ روضة الطالبين وعمدة المفتين (3/408).، والحنابلةِ المغني مع الشرح (4/287)، الإنصاف (4/362). قالَ شيخُنا: الظاهرُ أنهُ متى أمكنَ ردُّهُ وجبَ عليهِ ردُّهُ وإذا لم يمكنْ بأنِ انتقلَ ملكُهُ وباعَهُ، فهو يفيدُ الملكَ يعني العبرةُ بالمشقةِ.، والظاهريةِ المحلى (8/421)..
والذي يظهرُ أنَّ هذهِ المكاسبَ المحرمةَ تخرجُ عن ملكِ مَن بذلَها راضيًا إذا كانَ عالمًا بالتحريمِ أوِ الفسادِ؛ لأنهُ سلَّطَ الكاسبَ عليهِ بإذنِهِ ورضاهُ، فلا يمكنُ أنْ يُسوَّى بينهُ وبين مَن أخذَ مالَهُ من غيرِ رضاهُ وإذنِهِ.
قالَ ابنُ القيمِ: ((المقبوضُ بالعقدِ الفاسدِ يجبُ فيهِ الترادُّ منَ الجانبينِ. فيردُّ كلٌّ منهما على الآخرِ ما قبضَهُ منهُ كما في عقودِ الربا. وهذا عندَ مَن يقولُ: المقبوضُ بالعقدِ الفاسدِ لا يُملكُ.
فأمَّا إذا تلفَ المعوضُ عندَ القابضِ، وتعذَّرَ ردُّهُ فلا يُقضَى لهُ بالعوضِ الذي بذلَهُ، ويجمعُ لهُ بينَ العوضُ والمعوضُ.
فإنَّ الزانيَ واللائطَ ومستمعَ الغناءِ والنوح قد بذلوا هذا المالَ عن طيبِ نفوسِهِم، واستوفَوْا عوضَهُ المحرمَ، وليسَ التحريمُ الذي فيهِ لحقِّهِم، وإنما هو لحقِّ اللهِ، وقد فاتتْ هذهِ المنفعةُ بالقبضِ. والأصولُ تقتضي أنهُ إذا رُدَّ أحدُ العوضينِ يُرَدُّ الآخرُ، فإذا تعذَّرَ على المستأجرِ ردُّ المنفعةِ لم يردَّ عليهِ المالُ الذي بذلَهُ في استيفائِها.
وأيضًا فإنَّ هذا الذي استُوفِيَتْ منفعتُهُ عليهِ ضررٌ في أخذِ منفعتِهِ وعوضِها جميعًا، بخلافِ ما لو كانَ العوضُ خنزيرًا أو ميتةً، فإنَّ ذلكَ لا ضررَ عليهِ في فواتِهِ، فإنهُ لو كانَ باقيًا أتلفْناهُ عليهِ. ومنفعةُ الغناءِ والنوحِ لو لم تفتْ لتوفرتْ عليهِ بحيثُ يتمكنُ من صرفِها في أمرٍ آخرَ: أعني القوةَ التي عملَ بها)) أحكام أهل الذمة (1/575)..
لكن ينبغي أنْ يقالَ: إنه لما كانَ الرضا والإذنُ لا يكفيانِ في نقلِ الملكِ في كلِّ الأحوالِ الفروق للقرافي (2/86)، (3/208).، فإنَّ الكاسبَ في هذهِ الحالِ لا يستفيدُ الملكَ من كلِّ وجهٍ ككاسبِ الحلالِ، إذ لا يمكنُ أنْ يستويَ الخبيثُ والطيبُ. لذلكَ كانَ لزامًا على كاسبِ المحرمِ في هذا النوعِ منَ المكاسبِ أنْ يتصرفَ بالتخلصِ منهُ بالتصدقِ، فهو نوعٌ منَ الملكِ الخاصِّ لا المطلقِ، فإنَّ التخلصَ نوعُ تصرفٍ لا يثبتُ إلا لمنْ كانَ لهُ نوعُ ملكٍ، إذ حقيقةُ الملكِ هي التصرفُ أحكام القرآن للجصاص (2/190)، الفروع (3/408)..
وممَّا يُستدلُّ بهِ على ذلكَ ما رواهُ الشيخانِ رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والحث عليها، باب من لم يقبل الهدية لعلة، رقم (2407)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، رقم (3414). من حديثِ أبي حميدٍ الساعديِّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: استعملَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلًا منَ الأزدِ. يُقالُ لهُ: ابنُ الأَتَبِيَّةِ على الصدقةِ. فلمَّا قدمَ قالَ: هذا لكم، وهذا أُهدِيَ لِي. قالَ: «فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا!» فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يردَّها على مَن أهداها بل جعلَها في بيتِ المالِ فتح الباري (13/167)..