الفرعُ الثالثُ: ردُّ المكاسبِ المحرمةِ لورثةِ أصحابِها:
لأهلِ العلمِ قولانِ في براءةِ ذمةِ الكاسبِ إذا ردَّ المكاسبَ المحرَّمةَ إلى الورثةِ:
القولُ الأولُ: أنَّ الكاسبَ يبرأُ في الدنيا والآخرةِ بردِّ المكاسبِ المحرمةِ إلى الورثةِ. وهو مذهبُ الحنفيةِ المبسوط (2/495)، درر الحكام في مجلة الأحكام (6/327).، والشافعيةِ الإنصاف (12/58)، كشاف القناع (6/425).، والحنابلةِ تحفة المحتاج (10/244)، مغني المحتاج (4/440)، أسنى المطالب (4/357)..
واحتجُّوا بأنهُ قد ردَّ المالَ إلى مستحقِّهِ فبرأَ من إثمِهِ مطالب أولي النهى (4/69)..
القولُ الثاني: أنَّ الكاسبَ يبرأُ في الدنيا دونَ الآخرةِ بردِّ المكاسبِ المحرمةِ إلى الورثةِ. وهذا قولُ طائفةٍ من أصحابِ مالكٍ وأحمدَ الآداب الشرعية (1/78-80)، الداء والدواء ص: (258)..
واحتجوا بأنهُ منَعَ صاحبَ المالِ منَ الانتفاعِ بمالِهِ طوالَ حياتِهِ وماتَ ولم ينتفعْ بهِ، وهذا ظلمٌ لم يستدركْه هو، وإنما انتفعَ غيرُهُ باستدراكِهِ.
والأقربُ التفصيلُ، فيقالُ: إنْ كانتْ العينُ باقيةً، وطالبَ بها مالكُها حتى ماتَ، انتقلَ حقُّ المطالبةِ إلى ورثتِهِ في الدنيا والآخرةِ لاستحقاقِهِم بالميراثِ.
أمَّا إنْ هلكتِ العينُ في حياتِهِ فليسَ لورثتِهِ المطالبةُ بها في الآخرةِ لتلفِهِ قبلَ انتقالِ الحقِّ إليهم.
قالَ ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهُ: ((إنْ تمكَّنَ الموروثُ من أخذِ مالِهِ، والمطالبِةِ بهِ فلم يأخذْهُ حتى ماتَ صارتْ المطالبةُ بهِ للوارثِ في الآخرةِ كما هي كذلكَ في الدنيا.
وإنْ لم يتمكنْ من طلبِهِ وأخذِهِ، بل حالَ بينَهُ وبينَهُ ظلمًا وعدوانًا، فالطلبُ لهُ في الآخرةِ.
وهذا تفصيلٌ من أحسنِ ما يقالُ؛ فإنَّ المالَ إذا استهلكَهُ الظالمُ على الموروثِ، وتعذَّرَ عليه أخذُهُ صارَ بمنزلةِ عبدِهِ الذي قتلَهُ قاتلٌ، ودارِهِ التي أحرقَها غيرُهُ، وطعامِهِ وشرابِهِ الذي أكلَهُ وشربَهُ غيرُهُ.
ومثلُ هذا إنما تلفَ على الموروثِ لا على الوارثِ، فحقُّ المطالبةِ به لمنْ تلفَ على ملكِهِ.
يبقى أنْ يُقالَ: فإذا كانَ المالُ عقارًا أو أرضًا أو أعيانًا قائمةً باقيةً بعدَ الموتِ، فهي ملكٌ للوارثِ يجبُ على الغاصبِ دفعُها إليهِ في كلِّ وقتٍ، فإذا لم يدفعْ إليه أعيانَ مالِهِ استحقَّ المطالبةَ بها عندَ اللهِ كما يستحقُّ المطالبةَ بها في الدنيا)) الداء والدواء ص: (258)..
وبناءً على ما تقدمَ فإنَّ مَن فوَّتَ على غيرِهِ منفعَةَ مالِهِ بحبسِهِ عنهُ لحقَهُ منَ الإثمِ بقدرِ ما جنَى منَ الظلمِ، وإنْ ردَّهُ الاختيارات الفقهية ص: (166)..
يشهدُ لذلكَ ما روَى البخاريُّ رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، رقم (6053). منْ حديثِ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحلَّلْهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ)).
قالَ ابنُ عابدينَ الحنفيُّ: ((والمختارُ أنَّ الخصومةَ في الظلمِ بالمنعِ للميتِ، وفي الدينِ للوارثِ)) حاشية ابن عابدين (4/283)..
وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في هذا الحديثِ: ((فبيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الظلامةَ إذا كانتْ في المالِ طالبَ المظلومُ بها ظالمَهُ، ولم يجعلْ المطالبةَ لورثتِهِ، وذلك أنَّ الورثةَ يخالفونَهُ في الدنيا فما أمكنَ استيفاؤُهُ في الدنيا كانَ للورثةِ، وما لم يمكنْ استيفاؤُهُ في الدنيا، فالطالبُ به في الآخرةِ المظلومُ نفسُهُ)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/377).. واللهُ أعلمُ.