الفرعُ الثاني: التوبةُ معَ عدمِ إمكانِ ردِّها إلى أصحابِها:
إذا لم يمكنْ ردُّ هذهِ المكاسبِ المُحرَّمةِ الحاصلةِ من غيرِ تراضٍ إلى أصحابِها، فللعلماءِ رحمهمُ اللهُ في طريقةِ التوبةِ من هذهِ الأموالِ قولانِ في الجملةِ:
القولُ الأولُ:
أنه لا توبةَ لكاسبِ هذهِ الأموالِ المحرمةِ إلا بإرجاعِ المالِ إلى أهلِهِ، فإن تعذَّرَ فقد تعذرتْ عليهِ التوبةُ من حقوقِ أصحابِها، والقصاصُ أمامَهُ يومَ القيامةِ بالحسناتِ والسيئاتِ. فليستكثرْ منَ الحسناتِ ليتمكَّنَ منَ الوفاءِ.
وقد استدلَّ لهذا القولِ بما رواهُ مسلمٌ (224). وغيرُهُ منْ حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ مرفوعًا: ((لَا تُقبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)). وغيرُهُ منَ الأحاديثِ التي في معناهُ.
فإنَّ ظاهرَ هذهِ الأحاديثِ أنَّ التصدقَ بهذهِ المكاسبِ المحرمةِ لا يفيدُ كاسبَها. وعليهِ فإنه لا توبةَ لكاسبِ هذهِ الأموالِ المحرمةِ إلا بإرجاعِها إلى أهلِها.
قالَ ابنُ العربيِّ رحمَهُ اللهُ: ((فالصدقةُ من مالٍ حرامٍ في عدمِ القبولِ واستحقاقِ العقابِ، كالصلاةِ بغيرِ طهورِ في ذلك)) مرعاة المفاتيح (2/ 20- 21)..
وجهُ ذلكَ أنَّ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)) يدلُّ على ((أنَّ الغالَّ لا تبرأُ ذمتُهُ إلا بردِّ الغلولِ إلى أصحابِهِ لا قالَ شيخُنا ابنُ بازٍ في تعليقه على فتحِ الباري (3/279): "كذا في الأصلِ الذي بين أيدينا (أي بدونِ لا). ولعلَّهُ لا بأن يتصدقَ بهِ، فتأملْ، واللهُ أعلمُ". قالَ شيخُنا ابنُ عثيمين: وهوَ الظاهر. بأنْ يتصدقَ به إذا جهلَهم.
والسببُ فيهِ أنه من حقِّ الغانمينَ، فلو جهلت أعيانُهم لم يكنْ له أن يتصرفَ فيه بالصدقةِ على غيرِهم)) فتح الباري (3/278-279)..
وإذا ثبتَ هذا في الغلولِ فإنه ينجرُّ على بقيَّةِ المكاسبِ المحرَّمةِ التي من هذا النوعِ للجامعِ بينها.
ووجهُ تخصيصِ الغلولِ بالذكرِ معَ كونِ ((الحكمِ عامًّا لجميعِ الأموالِ المحرمةِ- كثمنِ الخمرِ وأجرةِ المزنيةِ والربا والسرقةِ ونحوِها- أنَّ الغنيمةَ فيها حقٌّ لجميعِ المسلمينَ، فإذا كانَ التصدقُ منَ المالِ الذي فيها حقٌّ غيرَ مقبولةٍ، فأَوْلَى ألَّا تُقبلَ منَ المالِ الذي ليسَ فيهِ حقٌّ)) مرعاة المفاتيح (2/ 21)..
وقد نوقِشَ هذا الاستدلالُ بأنهُ محمولٌ على ((الذي يحوزُ المالُ ويتصدقُ بهِ معَ إمكانِ ردِّه إلى صاحبِهِ، أو يتصدقُ صدقةَ متقربٍ كما يتصدقُ بمالِهِ، فاللهُ لا يقبلُ ذلكَ منهُ)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/263)..
وأمَّا من يُخرجُ المكاسبَ المحرمةَ لجهلِ أهلِها أو عدمِ إمكانِ ردِّها إليهم ((فإنما يتصدقُ بهِ صدقةَ متحرجٍ متأثمٍ، فكانتْ صدقتُهُ بمنزلةِ أداءِ الدَّينِ الذي عليهِ، وأداءِ الأماناتِ إلى أصحابِها، وبمنزلةِ إعطاءِ المالِ للوكيلِ المستحقِّ ليسَ هو منَ الصدقةِ الداخلةِ في قولِهِ: «وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/263). وقالَ شيخُنا: هذا صحيحٌ لأنَّ قولَهُ: «وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» يعني: تصدقَ به لنفسِهِ، بخلافِ التصدقِ تخلُّصًا. ففرقٌ بين من يتصدَّقُ تقرُّبًا إلى اللهِ بالصدقةِ، كأنما تصدقَ من مالِهِ، وبين الذي تصدقَ تخلُّصًا منها، والثوابُ لصاحبِها، لكن الثاني يؤجرُ؛ لأنه تابَ فيؤجرُ أجرَ التائبِ..
قالَ أبو حامدٍ الغزاليُّ رحمَهُ اللهُ: ((أمَّا قولُ القائلِ لا نتصدقُ إلَّا بالطيِّبِ، فذلكَ إذا طلبْنا الأجرَ لأنفسِنا، ونحنُ الآن نطلبُ الخلاصَ منَ المظلمةِ لا الأجرَ)) إحياء علوم الدين (2/131)..
واحتجَّ القائلونَ بأنه لا توبةَ لكاسبِ هذه الأموالِ المحرمةِ إلا بإرجاعِ المالِ إلى أهلِهِ بأنَّ هذا حقٌّ لآدميٍّ لم يصلْ إليهِ، وحقوقُ بني آدمَ مبنيةٌ على المشاحةِ، فلا بدَّ منِ استيفائِها في الدنيا أو في الآخرةِ.
وقد نوقِشَ هذا بأنَّ الردَّ واجبٌ معَ الإمكانِ، والمالُ الذي لا يُعرفُ مالكُهُ يسقطُ وجوبُ ردِّهِ لعدمِ الإمكانِ. وإمساكُهُ محرَّمٌ فلم يبقَ سبيلٌ إلا التصدُّقَ بهِ وإلا تعطَّلَ. وتعطيلُ الانتفاعِ به لا يجوزُ لما فيهِ منَ المفسدةِ والضررِ بمالِكِهِ وبالفقراءِ وبمَن هو في يدِهِ مدارج السالكين (1/419-421). .
وقدِ اختلفَ أصحابُ هذا القولِ فيما يُعملُ بهذهِ الأموالِ:
فقالتْ طائفةٌ: حكمُها حكمُ الأموالِ الضائعةِ تُدفعُ لبيتِ المالِ، تُحفظُ لأربابِها أبدًا. وبهذا قالَ جماعةٌ منَ الشافعيةِ أسنى المطالب (4/98)، حاشية قليوبي وعميرة (2/34)، (3/41)، تحفة المحتاج (5/360).، قالَ بعضُهم: هو مذهبُ الشافعيِّ، والمشهورُ عنه مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/592)، جامع العلوم الحكم (1/268)..
وذهبَ الفضيلُ بنُ عياضٍ إلى أنَّ الواجبَ إتلافُ المالِ المحرَّمِ. ولا يجوزُ أن يتصدقَ بهِ. قالَ: لا يُتقربُ إلى اللهِ إلا بالطيِّبِ كتاب الورع ص: (147)، جامع العلوم الحكم (1/268)، مدارج السالكين (1/418)..
وقد نوقِشَ هذا القولُ بأنه سواءٌ قيلَ بوقفِها والاحتفاظِ بها، أو قيلَ بإتلافِها فإنه يلزمُ منهُ تعطيلُ هذهِ الأموالِ عنِ الانتفاعِ بها، ويترتبُ على ذلك حصولُ ((المفسدةِ والضررِ بمالِكِهِ، وبالفقراءِ، وبمَن هو في يدِهِ.
أمَّا المالكُ فلعدمِ وصولِ نفعِهِ إليه. وكذلكَ الفقراءُ.
وأمَّا مَن هو في يدِهِ فلعدمِ تمكُّنِهِ منَ الخلاصِ من إثمِهِ فيغرمُهُ يومَ القيامةِ من غيرِ انتفاعٍ بهِ. ومثلُ هذا لا تبيحُهُ شريعةٌ فضلًا عن أنْ تأمرَ بهِ وتوجبَهُ. فإنَّ الشرائعَ مبناها على المصالحِ بحسبِ الإمكانِ وتكميلِها وتعطيلِ المفاسدِ بحسبِ الإمكانِ وتقليلِها. وتعطيلُ هذا المالِ ووقفُهُ ومنعُهُ عنِ الانتفاعِ بهِ مفسدةٌ محضةٌ لا مصلحةَ فيها فلا يُصارُ إليهِ)) مدارج السالكين (1/419). وينظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/596)..
كما أنَّ هذا القولَ يتضمنُ إضاعةَ الأموالِ التي نهَى اللهُ عنها ورسولُهُ رواه البخاري، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدَيْن من الكبائر، رقم (5518)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل، رقم (3238). من حديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ رضي الله عنه، عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقَوقَ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤْالِ، وَإِضَاعةَ الْمَالِ))..
القولُ الثاني:
أنَّ لكاسبِ هذهِ الأموالِ المحرمةِ توبةً منها. وقدِ اختلفَ أصحابُ هؤلاءِ في طريقةِ التوبةِ إلى طائفتينِ:
الطائفةُ الأولى: أنَّ من توبةِ الكاسبِ أنْ يتصدقَ بهذهِ المكاسبِ المحرمةِ عن أصحابِها، وهي مضمونةٌ لهم إنْ ظهروا أو أمكنَ ردُّها إليهم، فإنْ شاءوا أجازوا هذه الصدقةَ وأجرُها لهم، وإلا لزمَ المعتدِي بكسبِها ردُّها إليهم. وبهذا قالَ أبو حنيفةَ حاشية ابن عابدين (4/283).، ومالكٌ الذخيرة (6/28)، الخرشي على مختصر خليل (2/211). ، وأحمدُ الفروع (2/666)، الإنصاف (5/188)، (6/212-213)، مطالب أولي النهى (4/67).، وغيرُهم مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/245)، إعلام الموقعين (2/35)، القواعد لابن رجب ص: (226)، فتاوى ابن الصلاح (1/401)، المحلى (1/69)..
وممَّا يُستدلُّ به لهذا القولِ أنَّ اللهَ تعالى أناطَ كلَّ الواجباتِ بالاستطاعةِ. فقالَ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ التغابن:16.. والمالُ الذي لا يُعرفُ مالكُهُ يسقطُ وجوبُ ردِّه مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 262- 263). قال شيخنا: يسقط للعجز..
واستدلُّوا أيضًا بما جاءَ عن جماعةٍ منَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، فقد جاءَ ذلك ((عن ابنِ مسعودٍ، ومعاويةَ، وحجاجِ بنِ الشاعرِ؛ فقد رُوِي أنَّ ابنَ مسعودٍ اشترَى من رجلٍ جاريةً، ودخلَ يزنُ لهُ الثمنَ، فذهبَ ربُّ الجاريةِ فانتظرَهُ حتى يئسَ من عودِهِ، فتصدقَ بالثمنِ. وقالَ: اللهمَّ هذا عن ربِّ الجاريةِ، فإنْ رضيَ فالأجرُ لهُ، وإنْ أتى فالأجرُ لي ولهُ من حسناتي بقدرِهِ.
وغلَّ رجلٌ منَ الغنيمةِ ثم تابَ، فجاءَ بما غلَّهُ إلى أميرِ الجيشِ فأبى أن يقبلَهُ منهُ، قالَ: كيف لي بإيصالِهِ إلى الجيشِ، وقد تفرقوا؟ فأتى حجاجُ بنُ الشاعرِ، فقالَ: يا هذا إنَّ اللهَ يعلمُ الجيشَ وأسماءَهم وأنسابَهم، فادفعْ خُمسَهُ إلى صاحبِ الخمسِ، وتصدقْ بالباقي عنهم، فإنَّ اللهَ يوصلُ ذلكَ إليهم- أو كما قالَ-. ففعلَ فلمَّا أُخبرَ معاويةُ، قالَ: لأنْ أكونَ أفتيتُكَ بذلكَ أحبُّ إليَّ من نصفِ ملكِي)) مدارج السالكين (1/419-421)..
واستدلُّوا أيضًا بالقياسِ على ((اللقطةِ إذا لم يجدْ ربَّها بعد تعريفِها، ولم يُرِدْ أنْ يتملَّكَها تصدقَ بها عنهُ، فإنْ ظهرَ مالكُها خيَّرَهُ بينَ الأجرِ والضمانِ.
قالوا: ولأنَّ المجهولَ في الشرعِ كالمعدومِ، فإذا جهلَ المالكُ صارَ بمنزلةِ المعدومِ، وهذا مالٌ لم يُعلمْ له مالكٌ معينٌ ولا سبيلَ إلى تعطيلِ الانتفاعِ بهِ لما فيهِ منَ المفسدةِ والضررِ بمالِكِهِ وبالفقراءِ وبمَنْ هو في يدِهِ؛ أمَّا المالكُ: فلعدمِ وصولِ نفعِهِ إليهِ، وكذلكَ الفقراءُ)) مدارج السالكين (1/419-421)..
الطائفةُ الثانيةُ: أنَّ على الكاسبِ أنْ يَصِرفَ هذهِ المكاسبَ المحرمةَ إلى بيتِ المالِ؛ لتُصرَفَ في مصالحِ المسلمينَ. وبهذا قالَ الشافعيةُ المجموع شرح المهذب (9/428-429)، حاشية قليوبي وعميرة (3/41)، تحفة المحتاج (5/360)..
واحتجُّوا بأنَّ وليَّ الأمرِ ونوَّابَهُ أعلمُ بأوجهِ المصالحِ منَ الكاسبِ، فكانوا أولى بالتصرفِ منهُ، فتعيَّنَ صرفُها إلى بيتِ المالِ الذخيرة (6/28)، المجموع شرح المهذب (9/322)..
والذي يترجحُ في أصلِ المسألةِ أنَّ للكاسبِ توبةً. وأنَّ الواجبَ عليهِ عندَ جمهورِ العلماءِ أنْ يتصدقَ بها في مصالحِ المسلمينَ العامةِ، وعليهِ أنْ يجتهدَ في طلبِ أطيبِ المصارفِ وأنفعِها، لا تتمُّ التوبةُ منها إلا بهذا المجموع شرح المهذب (9/426)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 241)، الآداب الشرعية (1/78-80)..