المطلبُ الثاني: أرباحُ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ:
اختلفَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ في أرباحِ وعوائدِ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ الحاصلةِ من غيرِ تراضٍ في ملكِ مَن تدخلُ على أقوالٍ:
القولُ الأولُ:
أنَّ هذه الأرباحَ والعوائدَ لا تحلُّ للكاسبِ ولا للمالكِ، بل يجبُ التصدقُ بها تخلُّصًا. وهذا مذهبُ الحنفيةِ المبسوط (13/163)، البناية شرح الهداية (10/232-233)، شرح فتح القدير (9/328-329). تنبيهٌ: ذهبَ الحنفيةُ إلى أنَّ لكاسبِ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ أن يستعينَ بالربحِ في أداءِ الضمانِ إنْ وجبَ عليه ضمانُ شيءٍ، وعلةُ هذا أنَّ الخبثَ كان حقَّ المالكِ، فيزولُ بالصرفِ إليهِ إذا كانَ فيما إذا كانَ الكاسبُ فقيرًا. أمَّا إن كانَ غنيًّا فعندهم فيهِ روايتانِ.، وهو روايةٌ عنِ الإمامِ أحمدَ القواعد لابن رجب ص: (192)، الإنصاف (6/ 208)..
ووجهُ هذا القولِ أنَّ هذه المكاسبَ حصلتْ بسببٍ خبيثٍ؛ وهو التصرفُ في ملكِ الغيرِ دونَ إذنِهِ، وما هذا حالُهُ فسبيلُهُ التصدقُ بهِ؛ إذِ الفرعُ يحصلُ على وصفِ الأصلِ.
القولُ الثاني:
التفصيلُ، فما نتجَ منَ الأرباحِ من غيرِ عملِ الكاسبِ كنسلِ حيوانٍ، ولبنِهِ، وصوفِهِ، ومنفعةِ العقارِ، ونحوِ ذلك فليسَ للكاسبِ منها شيءٌ، بل هي لصاحبِ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ. أمَّا إنْ كانتْ ناشئةً عن عملِ الكاسبِ، فهي للكاسبِ. وهذا مذهبُ المالكيةِ المنتقى للباجي (4/22)، الاستذكار (7/ 149)، الفواكه الدواني (2/245-246)، حاشية العدوي (2/372).. لكنهم قالوا: إنَّ الأرباحَ لا تطيبُ للكاسبِ إلا إذا ردَّ رأسَ المالِ إلى صاحبِهِ حاشية العدوي (2/372). وذهبَ طائفةٌ إلى أنَّ الأفضلَ أن يتصدقَ الكاسبُ بالربحِ..
القولُ الثالثُ:
أنَّ هذه الأرباحَ والعوائدَ لأصحابِ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ، وليسَ للكاسبِ منها شيءٌ. وهذا مذهبُ الشافعيةِ المهذب (1/486)، الحاوي الكبير (7/336-338).، والحنابلةِ تصحيح الفروع للمرداوي (4/493-494)، الإنصاف (6/208)، مطالب أولي النهى (4/20)..
ووجهُهُ أنه نماءُ ملكِهُ، فصارَ كالثمرةِ والولدِ. قالَ ابنُ حزمٍ رحمَهُ اللهُ: ((وكلُّ ما تولَّدَ من مالِ المرءِ فهو لهُ باتفاقِ خصومِنا معنا، فمَن خالَفَ ما قلْنا فقد أباحَ أكلَ مالٍ بالباطلِ، وأباحَ المالَ الحرامَ، وخالفَ القرآنَ والسننَ بلا دليلٍ أصلًا)) المحلى (8/135)..
القولُ الرابعُ:
أنَّ هذهِ الأرباحَ والعوائدَ التي حصلتْ بعملٍ منَ الكاسبِ يكونُ الكاسبُ فيها شريكًا للمالكِ. وهذا روايةٌ عن أحمدَ الإنصاف (6/208).، رجَّحها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/323)، الاختيارات الفقهية ص: (147).، وابنُ القيمِ مدارج السالكين (1/423)..
وعلى هذا القولِ يملكُ الكاسبُ حصتَهُ منَ الربحِ، وما بقى معَ الأصلِ فهو للمالكِ قال البعلي في الاختيارات الفقهية ص: (147): وكذلكَ المتوجهُ فيما إذا غصبَ شيئًا كفرسٍ وكسبَ بهِ مالًا كالصيدِ أن يجعلَ الكسوبَ بين الغاصبِ ومالكِ الدابةِ على قدرِ نفعِهِما بأن تُقَوَّمَ منفعةُ الراكبِ ومنفعةُ الفرسِ ثم يقسمُ الصيدَ بينهما..
ووجهُ هذا القولِ ما فعلَهُ عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ مع ابنيْهِ عبيدِ اللهِ وعبدِ اللهِ الاستذكار (7/150).، فإنه ((لمَّا أقرضَ أبو موسى الأشعريُّ ابنيْهِ من مالِ الفيءِ مائتي ألفِ درهمٍ وخصَّهما بها دونَ سائرِ المسلمينَ.
ورأى عمرُ بنُ الخطابِ أنَّ ذلكَ محاباةٌ لهما لا تجوزُ، وكانَ المالُ قد ربحَ ربحًا كثيرًا بلغَ به المالُ ثمانمائةِ ألفِ درهمٍ، أمرَهُما أنْ يدفعا المالَ وربحَهُ إلى بيتِ المالِ، وأنه لا شيءَ لهما منَ الربحِ؛ لكونِهما قبَضَا المالَ بغيرِ حقٍّ.
فقالَ لهُ ابنُهُ عبيدُ اللهِ: إنَّ هذا لا يحلُّ لكَ، فإنَّ المالَ لو خسرَ، وتلفَ كانَ ذلكَ من ضمانِنَا، فلماذا تجعلُ علينا الضمانَ، ولا تجعلُ لنا الربحَ؟ فتوقَّفَ عمرُ.
فقالَ له بعضُ الصحابةِ: نجعلُهُ مضاربةً بينهم وبين المسلمينَ لهما نصفُ الربحِ وللمسلمينَ نصفُ الربحِ، فعملَ عمرُ بذلكَ.
وهذا ممَّا اعتمدَ عليهِ الفقهاءُ في المضاربةِ، وهو الذى استقرَّ عليهِ قضاءُ عمرَ بنِ الخطابِ، ووافقَهُ عليهِ أصحابُ رسولِ اللهِ، وهو العدلُ. فإنَّ النماءَ حصلَ بمالِ هذا وعملِ هذا، فلا يختصُّ أحدُهما بالربحِ، ولا تجبُ عليهم الصدقةُ بالنماءِ. فإنَّ الحقَّ لهما لا يعدوهُما. بل يُجعلُ الربحُ بينهما كما لو كانا مشتركينِ شركةَ مضاربةٍ)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/323)..
ولعلَّ هذا القولَ أقربُ هذهِ الأقوالِ إلى الصوابِ، واللهُ تعالى أعلمُ.
وقد فصَّلَ ابنُ رشدٍ رحمَهُ اللهُ في المسألةِ تفصيلًا جيِّدًا بداية المجتهد (2/321).، فأجملَ أقوالَ العلماءِ في اتجاهينِ:
الأول: مَن ذهبَ إلى أنَّ حكمَ الغلةِ حكمُ الشيءِ المغصوبِ؛ وعليه يلزمُ الغاصبَ الغلةُ يومَ قبضِها، أو أكثرُ ما انتهتْ إليه قيمتُها، على قولِ مَن يرى أنَّ الغاصبَ يلزمُهُ أرفعُ القيمِ من يومِ غصبِها، لا قيمةُ الشيءِ المغصوبِ يومَ الغصبِ.
الثاني: مَن ذهبَ إلى أنَّ حكمَ الغلةِ يخالفُ حكمَ المغصوبِ فهؤلاءِ اختلفوا كثيرًا قالَ في بدايةِ المجتهدِ (2/321):((وتحصيلُ مذهبِ هؤلاءِ في حكمِ الغلةِ هو أنَّ الغلالَ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
أحدها: غلَّةٌ متولدةٌ عنِ الشيءِ المغصوبِ على نوعِهِ؛ وخلقتِهِ وهو الولدُ. وغلةٌ متولدةٌ عنِ الشيءِ لا على صورتِهِ، وهو مثلُ الثمرِ، ولبنِ الماشيةِ، وجُبنِها؛ وصوفِها. وغلالٌ غيرُ متولدةٍ، بل هي منافعُ، وهي الأكريةُ والخراجاتُ وما أشبهَ ذلكَ. فأمَّا ما كانَ على خلقتِهِ وصورتِهِ فلا خلافَ أعلمُهُ أنَّ الغاصبَ يردُّهُ كالولدِ معَ الأمِّ المغصوبةِ، وإنْ كانَ ولدَ الغاصبِ)). ثم قالَ:(( وأمَّا إنْ كانَ متولِّدًا على غيرِ خلقةِ الأصلِ، وصورتِهِ ففيه قولانِ:أحدُهما: أنَّ للغاصبِ ذلكَ المتولدَ. والثاني: أنهُ يلزمُهُ ردُّهُ معَ الشيءِ المغصوبِ إنْ كانَ قائمًا أو قيمتُها إنِ ادَّعَى تلفَها ولم يُعرفْ ذلكَ إلا من قولِهِ؛ فإنْ تلفَ الشيءُ المغصوبُ كانَ مخيرًا بينَ أنْ يضمنَهُ بقيمتِهِ، ولا شيءَ لهُ في الغلةِ وبينَ أنْ يأخذَهُ بالغلةِ ولا شيءَ لهُ منَ القيمةِ.
وأمَّا ما كانَ غيرَ متولِّدٍ فاختلفوا فيهِ على خمسةِ أقوالٍ: أحدُها: أنهُ لا يلزمُهُ ردُّه جملةً من غيرِ تفصيلٍ. والثاني: أنهُ يلزمُهُ ردُّهُ من غيرِ تفصيلٍ أيضًا. والثالثُ: أنهُ يلزمُهُ الردُّ إنْ أكرى ولا يلزمُهُ الردُّ إنِ انتفعَ أو عطلَ. والرابعُ: يلزمُهُ إنْ أكرى أوِ انتفَعَ، ولا يلزمُهُ إنْ عطلَ. والخامسُ: الفرقُ بينَ الحيوانِ والأصولِ. أعني أنهُ يردُّ قيمةَ منافعِ الأصولِ ولا يردُّ قيمةَ منافعِ الحيوانِ، وهذا كلُّهُ فيما اغتلَّ منَ العينِ المغصوبةِ معَ عينِها وقيامِها.
وأمَّا ما اغتلَّ منها بتصريفِها وتحويلِ عينِها كالدنانيرِ فيغتصبُها فيتجرُ بها فيربحُ فالغلةُ لهُ، قولًا واحدًا في المذهبِ)). وقالَ قومٌ: ((الربحُ للمغصوبِ، وهذا أيضًا إذا قصدَ غصبَ الأصلِ. وأمَّا إذا قصدَ غصبَ الغلةِ دونَ الأصلِ فهو ضامنٌ للغلةِ بإطلاقٍ، ولا خلافَ في ذلكَ سواءٌ عطلَ أو انتفعَ أو أكرى كان ممَّا يزالُ بهِ أو بما لا يزالُ بهِ))..