الفرعُ الثالثُ: الملكُ حالَ كونِ هذهِ المكاسبِ قد تغيَّرتْ:
الملكُ يتأثرُ في هذهِ الحالِ بنوعِ التغيراتِ الطارئةِ على هذهِ المكاسبِ المحرمةِ. وهي ثلاثةُ أنواعٍ في الجملةِ: إما أن تتغيرَ العينُ كُلِّيًّا، وإما أن تتغيرَ العينُ بزيادةٍ، أو نقصٍ. وبيانُ أثرِ هذا التغيرِ يتضحُ في المسائلِ التاليةِ:
المسألةُ الأولى: التغيرُ الكُلِّيُّ.
حقيقةُ هذا النوعِ منَ التغيرِ هوَ أن تتغيَّرَ هذهِ المكاسبُ المحرمةُ بحيثُ يفوتُ مقصودُ المالكِ الأصليِّ منها؛ أو أن تتغيرَ بما يزيلُ اسمُها عنها.
مثلُ ما لو غصبَ عصيرًا فتخمَّر، أو حنطةً فطحنَها، أو حديدًا فاتَّخذَهُ سيفًا، وكذلكَ ما لو سرقَ موادَّ خامٍ من حديدٍ أو خشبٍ أو غيرِها، ثم استعملَها في بناءٍ أو صناعةٍ ونحوِ ذلكَ.
فللعلماءِ في أثرِ هذهِ التغيراتِ على ملكِ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ قولانِ في الجملةِ:
القولُ الأولُ: أنَّ ملكَ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ باقٍ لأصحابِها.
وانقسمَ هؤلاءِ إلى ثلاثِ فِرقٍ:
الفرقةُ الأولى: مَن قالَ: إنَّ ملكَ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ باقٍ لأصحابِها، وعلى الكاسبِ ضمانُ النقصِ، وبهِ قالَ الشافعيُّ في الغصبِ نهاية المحتاج (5/180-181).، وهوَ المذهبُ عندَ الحنابلةِ الإنصاف (6/200). لكنْ إنِ انقلبَ العصيرُ خمرًا ففي وجهٍ أنَّ على الغاصبِ القيمةَ. والمذهبُ يلزمُهُ مثلُهُ..
الفرقةُ الثانيةُ: مَن قالَ: إنَّ مِلْكَ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ باقٍ لأصحابِها، لكنْ للمالكِ الخيارُ بينَ أخذِها وتضمينِ النقصِ، وبينَ المطالبةِ بالبدلِ. وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ حيثُ قالَ عنهُ: ((وهذا أعدلُ الأقوالِ، وأقواها)) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/562)..
الفريقُ الثالثُ: مَن قالَ: إنَّ ملْكَ هذه المكاسبِ المحرمةِ باقٍ لأصحابها، لكنْ فرَّقَ بينَ ما إذا كانَ التغيرُ بآفةٍ سماويةٍ أو بفعلِ الكاسبِ؛ فإن تغيرَ في يدِهِ فالمالكُ مخيَّرٌ بينَ أخذِهِ بنقصِهِ أو تضمينِهِ القيمةَ، ولو كانَ النقصُ بتعديهِ خُيِّرَ أيضًا في أخذِهِ وأخذِ ما نقصَهُ، أو أخذِ قيمتِهِ يومَ الغصبِ الفواكه الدواني (2/ 244)..
القولُ الثاني: أنَّ مِلْكَ هذهِ المكاسبِ المحرَّمةِ ينتقلُ إلى ملكِ الكاسبِ، ويضمنُهُ لصاحبِهِ، وبهِ قالَ أبو حنيفةَ في الغصبِ البناية شرح الهداية (9/332).، وهو قولٌ عندَ الحنابلةِ الإنصاف (6/201)..
والراجحُ أنَّ ملكَ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ باقٍ لأصحابِها، وأنَّ المالكَ مُخَيَّرٌ بينَ أخذِها وتضمينِ النقصِ، وبينَ المطالبةِ بالبدلِ سواءٌ أتغيَّرتْ بتعدٍّ أم بتفريطٍ أم بغيرِ ذلكَ.
وعلةُ ذلكَ: أنَّ يدَ الكاسبِ ليستْ يدًا أمينةً، فهوَ ضامنٌ على كلِّ حالٍ، وقد قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ)) أخرجه مالك (1456)، من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله قال: ... فذكره، وهو مرسل؛ وأحمد (22272) من طريق موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة. وأبو داود (3073)؛ والترمذي (1378) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه..
المسألةُ الثانيةُ: التغيرُ بالنقصِ.
حقيقةُ هذا النوعِ منَ التغيُّرِ هو أن يطرأَ نقصٌ على هذهِ المكاسبِ المحرمةِ.
وهذا النوعُ منَ التغيُّرِ لا يؤثرُ في زوالِ ملكِ هذهِ المكاسبِ، فهي على ملكِ أصحابِها. وهذا مذهبُ الحنفيةِ البناية شرح الهداية (10/229، 226).، وقولٌ عندَ المالكيةِ بداية المجتهد (2/318).، وبهِ قالَ الشافعيةُ نهاية المحتاج (5/171).، والحنابلةُ الروض المربع ص: (302)..
وبناءً عليهِ فإنهُ يجبُ على الكاسبِ أن يردَّ العينَ، ويضمنَ النقصَ الذي حصلَ، إلا أنَّ الحنفيةَ استثنَوْا الربوياتِ، فقالوا: لا يمكنُهُ تضمينُ النقصانِ معَ استردادِ الأصلِ؛ لأنهُ يؤدي إلى الربا فليسَ لهُ إلا أخذُهُ ناقصًا أو أخذُ القيمةِ البناية شرح الهداية (10/ 231)..
وذهبَ المالكيةُ إلى التفريقِ بينَ ما إذا كانَ النقصُ حاصلًا بفعلِ الغاصبِ أو حاصلًا بفعلِ اللهِ تعالى بداية المجتهد (2/317-318). وقد أشارَ ابنُ رشدٍ رحمَهُ اللهُ إلى سببِ الخلافِ في هذهِ المسألةِ..
فإن كانَ النقصانُ حاصلًا بفعلِ اللهِ تعالى فليسَ للمالكِ إلا أن يأخذَ هذهِ المكاسبَ المحرمةَ ناقصةً أو يضمنَ قيمتَها يومَ كسبِها.
أمَّا إن كانَ النقصُ بجنايةٍ منَ الكاسبِ فللمالكِ أن يضمنَهُ القيمةَ يومَ كسبِهِ، أو يأخذَ الكسبَ المحرمَ مع قيمةِ ما أنقصتْهُ الجنايةُ.
والراجحُ هو ما ذهبَ إليهِ الجمهورُ من وجوبِ ردِّ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ، وضمانِ النقصِ. وأمَّا التفريقُ بينَ الربوياتِ وغيرِها فلا وجهَ لهُ؛ لأنَّ هذا ليسَ بيعًا يُشترطُ فيه ما يُشترطُ في البيعِ.
المسألةُ الثالثةُ: التغيرُ بالزيادةِ.
حقيقةُ هذا النوعِ منَ التغيرِ هو أن يطرأَ زيادةٌ على أعيانِ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ.
وهذا النوعُ منَ التغيُّرِ لا يؤثرُ في زوالِ ملكِ هذهِ المكاسبِ، فهي على ملكِ أصحابِها. وهذا هوَ مذهبُ الشافعيةِ نهاية المحتاج (5/184- 185)، روضة الطالبين وعمدة المفتين (ه/ 27)..
وذهبَ الحنابلةُ في روايةٍ إلى أنهُ إذا زادتْ هذهِ المكاسبُ المحرمةُ بعملِ كاسبِها فإنهُ يكونُ شريكًا بالزيادةِ؛ لأنَّ الزيادةَ حصلتْ بمنافعِهِ، والمنافعُ تجري مَجرَى الأعيانِ المبدع (5/ 161). تنبيه: وقد فصل ابن رشد في زيادة هذا نوع من هذه المكاسب بداية المجتهد (2/320-321).. وهذا القولُ من حيثُ النظرُ أقربُ إلى تحقيقِ العدلِ.