الفرعُ الثاني: الملكُ حالَ كونِ هذهِ المكاسبِ تالفةً:
إذا كانت هذهِ المكاسبُ المحرمةُ قد استُهْلِكتْ كليًّا، أو تعذَّرَ ردُّها لأصحابِها فيختلفُ حكمُها باختلافِ حالِها، وهي لا تخلو من حالينِ:
الحالُ الأولى:
أن تكونَ هذهِ المكاسبُ المحرَّمةُ مثليَّةً فائدةٌ: ضابطُ المثليِّ مختلفٌ فيهِ بينَ العلماءِ رحمهمُ اللهُ على أقوالٍ:
أولًا: المثليُّ عندَ الحنفيةِ: هوَ المكيلُ أوِ الموزونُ غيرُ المصنوعِ.
ثانيًا: المثليُّ عندَ المالكيةِ: هوَ المكيلُ أوِ الموزونُ أوِ المعدودُ الذي لا تختلفُ أفرادُهُ.
ثالثًا: المثليُّ عندَ الشافعيةِ: هوَ المكيلُ أوِ الموزونُ مما يجوزُ السلمُ فيهِ.
رابعًا: المثليُّ عندَ الحنابلةِ: كلُّ مكيلٍ أو موزونٍ لا صناعةَ فيهِ مباحةً يصحُّ السلمُ فيهِ.
خامسًا: أنَّ كلَّ ما لهُ مثلٌ؛ يجبُ فيهِ مثلُهُ سواءٌ كانَ مكيلًا؛ أو موزونًا أو معدودًا أو حيوانًا أو غيرَ ذلكَ. وهذا هوَ اختيارُ شيخِ الإسلامِ، وابنِ القيمِ، ورجَّحهُ ابنُ حزمٍ، واختيارُ شيخِنا حفظَهُ اللهُ، وهوَ ظاهرُ القوةِ..
فالواجبُ ردُّ مثلِها بالاتفاقِ. قالَ ابنُ رشدٍ: ((فإذا ذهبَتْ عينُهُ فإنهم اتفقوا على أنهُ إذا كانَ مكيلًا أو موزونًا؛ أنَّ على الغاصبِ المثلَ، أعني: مثلَ ما استهلكَ صفةً ووزنًا)) بداية المجتهد (2/317). وينظر: البناية شرح الهداية (9/318، 321)، الخرشي على مختصر خليل (6/ 133)، نهاية المحتاج (5/162)، الروض المربع ص: (303)..
الحالُ الثانيةُ:
أن تكونَ هذهِ المكاسبُ المحرمةُ أعيانًا قيميَّةً، أو مثليَّةً تعذَّرَ مثلُها.
فالواجبُ على الكاسبِ حينئذٍ ردُّ القيمةِ، وهذا متفقٌ عليهِ بينَ الأئمةِ الأربعةِ البناية شرح الهداية (9/319)، جواهر الإكليل (2/149)، فتح الجواد (2/552)، الروض المربع ص: (304)..
إلا أنهم اختلفوا في وقتِ احتسابِ قيمةِ هذهِ المكاسبِ المحرمةِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
القولُ الأولُ: أنَّ المعتبرَ هو قيمةُ العينِ يومَ الغصبِ. وهوَ مذهبُ الحنفيةِ البناية شرح الهداية (10/214).، والمالكيةِ في المشهورِ جواهر الإكليل (2/149).، وبهِ قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ الاختيارات الفقهية ص: (165). وقالَ شيخُنا ابنُ عثيمين: ليسَ لهذا وجهٌ إلا إن كانَ قد أخذَها على سبيلِ التملكِ، وإلا فإنها على ملكِ صاحبِها ونماؤُها لهُ..
القولُ الثاني: أنَّ المعتبرَ هوَ قيمةُ العينِ يومَ التلفِ أوِ التعذرِ. وهوَ المذهبُ عندَ الحنابلةِ الروض المربع ص: (430)، المبدع (5/182)..
القولُ الثالثُ: أنَّ المعتبرَ هوَ أقصى قيمتِهِ من يومِ غصبِهِ إلى يومِ تلفِهِ أو تعذرِهِ. وهذا مذهبُ الشافعيةِ فتح الجواد (2/552)، روضة الطالبين وعمدة المفتين (5/25)..
وأقربُ هذهِ الأقوالِ أنَّ المعتبرَ هوَ قيمةُ العينِ يومَ التلفِ أوِ التعذُّرِ؛ لأنَّ العينَ لم تزلْ مملوكةً لأصحابِها إلى يومِ تلفِها أو تعذرِها، فهي تالفةٌ على ملكِ أصحابِها وقد يقالُ بالقولِ الثالثِ إذا رأى ذلك الحاكمُ..