بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، له الحمدُ في الآخرةِ والأُولى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أحلَّ لنا الطيباتِ، وحرَّمَ علينا الخبائثَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ الأطهارِ، وأصحابِهِ الأخيارِ وعلى منِ اتبعَ سنتَهُ بإحسانٍ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ طيبَ الكسبِ وطلبَ الحلالِ وتحرِّيَهُ من آكدِ ما يجبُ على أهلِ الإيمانِ ولا سيَّما زمنُ الاشتباهِ؛ وذلكَ لعظيمِ أثرِ الكسبِ الحرامِ في منعِ الخيرِ وحبسِهِ؛ رَوَى مسلمٌ في صحيحِهِ من حديثِ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ. فَقَالَ: ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم﴾ المؤمنون:51.. وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾ البقرة:172.، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ؛ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟))كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من كسب طيب، رقم (1686). من حديث أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه..
ولما كانَ فُشُوُّ المكاسبِ المحرمةِ وانتشارُها من سماتِ هذا العصرِ، وهو تصديقُ ما أخبرَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عما يكونُ في آخرِ الزمانِ، ففي صحيحِ البخاريِّ من حديثِ سعيدٍ المقبريِّ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ؛ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ)) كتاب البيوع، باب قول الله تعالى: ولا تأكلو أموالكم بينكم، رقم (1941). -كان بيانُ أحكامِ التوبةِ منَ المكاسبِ المحرمةِ وسبيلُ السلامةِ منها أمرًا مُلِحًّا. فإنَّ كثيرًا ممَّن قد تورَّطَ في كسبٍ حرامٍ يفيقُ بعدَ غفلةٍ، ويثبُ بعدَ إدبارٍ، فيحتاجُ إلى توضيحِ معالمِ طريقِ التوبةِ وبيانِ ما قد يُشكلُ عليهِ من مسائِلِها.
لذا فقدِ استعنتُ اللهَ تعالى في بيانِ ذلكَ، وتوضيحِهِ من خلالِ ما جاءَ في كتابِ اللهِ منَ الآياتِ المباركاتِ، ومن خلالِ ما ثبتَ في سنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم منَ الأحاديثِ.
وقد تناولتُ بحثَ المسألةِ على النحوِ التالي:
الأولُ: تمهيدٌ: بينتُ فيهِ حقيقةَ المكاسبِ المحرمةِ.
الثاني: المبحثُ الأولُ: المكاسبُ المحرمةُ الحاصلةُ من غيرِ تراضٍ.
وفيه أربعةُ مطالبَ:
المطلبُ الأولُ: الملكُ في هذا النوعِ منَ المكاسبِ.
المطلبُ الثاني: أرباحُ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ.
المطلبُ الثالثُ: موجَبُ ضمانِ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ.
المطلبُ الرابعُ: التوبةُ من هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ.
الثالثُ: المبحثُ الثاني: المكاسبُ المحرمةُ الحاصلةُ بتراضٍ.
وفيه ثلاثةُ مطالبَ:
المطلبُ الأولُ: أقسامُ المكاسبِ المحرمةِ الحاصلةِ بتراضٍ.
المطلبُ الثاني: ملكُ هذا النوعِ منَ المكاسبِ المحرمةِ.
المطلبُ الثالثُ: التوبةُ من هذا النوعِ منَ المكاسبِ.
الرابعُ: خاتمةٌ ضمَّنْتُها أهمَّ نتائجِ البحثِ.
ومما يجدرُ التنبيهُ إليهِ أنَّ أصلَ هذا البحثِ قد عُرِضَ على شيخِنا العلامةِ الشيخِ محمدٍ الصالحِ العثيمين رحمَهُ اللهُ، فعلَّقَ عليهِ جملةً منَ التعليقاتِ الماتعةِ، فتتميمًا للفائدةِ فقد أشرتُ إلى تعليقاتِهِ في الحاشيةِ بقولِي: قالَ شيخُنا.
واللهَ أسألُ أن يوفقَني إلى الصوابِ والسدادِ. وأصلِّي وأسلِّمُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.