المسألة الثانية: ضابط الذي يباح له التقدم ليلة مزدلفة:
الرخصةُ في جوازِ التقدُّمِ من مزدلفةَ وردتْ للضعفةِ دفعًا لمضرةِ الزحامِ عنهم، ولذلك فإنَّ كلَّ من كانَ يضرُّه الزحامُ فإنَّ له التقدُّمَ من مزدلفةَ قبلَ زحمةِ الناسِ وحَطْمَتِهِم؛ لأنَّ الحكمَ يدورُ مع علَّتِهِ وجودًا وعدمًا ينظر في هذه القاعدة: "أصول السرخسي" (2/178)، "إعلام الموقعين" (4/105)، "قواطع الأدلة في الأصول" (2/ 152). ومن ذلك خوفُ فواتِ الرفقةِ، وكذلك الالتزامُ بتنظيماتِ تفويجِ الحجاجِ تفاديًا للزحامِ.
ولا يخفى أنَّ التضرُّرَ بالزحامِ في هذه الأزمنةِ لا يقتصرُ على النساءِ والصبيانِ وكبارِ السنِّ فحسبُ، بل يمتدُّ إلى كثيرٍ منَ الأصحَّاءِ والأقوياءِ، وذلك بسببِ الزيادةِ المطردةِ غيرِ المسبوقةِ في أعدادِ الحجاجِ، وغيرُ خافٍ أنَّ ما يحصلُ منَ الضررِ بالزحامِ أمرٌ يشقُّ على أكثرِ الناسِ، سواءٌ في ذلك زحمةُ السيرِ من مزدلفةَ إلى مِنَى، أو زحمةُ طرقِ الوصولِ إلى رمْيِ الجمرةِ، أو زحمةُ الرميِ، وهذا سببُ يستوجبُ التخفيفَ.
قالَ شيخُنا ابنُ بازٍ- رحمَهُ اللهُ- في تعليلِ التسهيلِ في جوازِ دفعِ غيرِ الضعفةِ من مزدلفةَ قبلَ الفجرِ: ((لأنَّ الزحامَ وكثرةَ الناسِ تُعطِي قوةَ الرخصةِ، وأنَّ الضعفةَ ما رُخِّصَ لهم إلا من أجلِ المشقةِ، فإن جاءتِ المشقةُ جاءَ العذرُ، فإذا جاءتِ الشدةُ جاءَ التيسيرُ ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ (الشرح:6)، والناسُ في الأوقاتِ الأخيرةِ فيها زحامٌ شديدٌ ومشقةٌ، لو جلسَ الناسُ كلُّهم حتى الإسفارِ)) "شرح بلوغ المرام" للعلامة ابن باز كتاب الحج عناية الهبدان ص: ( 86)..
وقد ذكرَ ابنُ عابدينَ مع كونِهِ لم يدرِكْ هذه الأوقاتِ أنَّ الزحامَ في الطريقِ من مزدلفةَ إلى مِنَى والرميِ مُحقَّقٌ، فكيف لو أدركَ ما عليهِ الناسُ اليومَ؟! قالَ في سياقِ كلامِهِ عن أثرِ الزحامِ في سقوطِ الوقوفِ بمزدلفةَ: ((وهو شاملٌ لخوفِ الزحمةِ عندَ الرميِ، فمُقتضاه أنه لو دفعَ ليلًا ليرميَ قبلَ دفعِ الناسِ وزحمتِهِم لا شيءَ عليهِ، لكن لا شكَّ أنَّ الزحمةَ عندَ الرميِ، وفي الطريقِ قبلَ الوصولِ إليهِ أمرٌ مُحقَّقٌ في زمانِنَا، فيلزمُ منهُ سقوطُ واجبِ الوقوفِ بمزدلفةَ، فالأَوْلى تقييدُ خوفِ الزحمةِ بالمرأةِ)) "حاشية ابن عابدين" (2/511). ، والذي يظهرُ أنهُ لا فرقَ في أثرِ شدةِ الزحامِ بينَ الرجلِ والمرأةِ والصغيرِ والكبيرِ؛ لأنَّ الضررَ معنًى جامعٌ فيهم، وإن كانَ متفاوتُ القدرِ، كلٌّ بحسبِهِ.