المسألة الأولى: وقت الدفع من مزدلفة للضعفة:
اتفقَ أهلُ العلمِ على جوازِ تقديمِ الضعفةِ من مزدلفةَ إلى مِنَى قبلَ الفجرِ"المجموع شرح المهذب" (8/153). ، وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في وقتِ جوازِ الدفعِ لهؤلاءِ؟ على ثلاثةِ أقوالٍ:
القولُ الأولُ: يجوزُ الدفعُ للضعفةِ ونحوِهِم بعدَ نصفِ الليلِ، وهذا هو مذهبُ الشافعيةِ"أسنى المطالب" (1/489)، " تحفة المحتاج" (4/113). ، والحنابلةِ"الإنصاف" (4/32)، "كشاف القناع" (2/497)..
القولُ الثاني: يجوزُ الدفعُ للضعفةِ ونحوِهِم في أيِّ جزءٍ منَ الليلِ بعدَ النزولِ وحطِّ الرَّحلِ، وهذا مذهبُ المالكيةِ"الذخيرة "(3/263)، "شرح الخرشي على مختصر خليل "(2/337). ، وهو ظاهرُ مذهبِ الحنفيةِ، فإنهم لم يقيِّدوا ذلك بوقتٍ، بل ولا بحطِّ رحلٍ ونزولٍ، قالَ ابنُ نُجَيْمٍ: ((لو مرَّ بها من غيرِ أن يقفَ جازَ كالوقوفِ بعرفةَ، ولو مرَّ في جزءٍ من أجزاءِ المزدلفةِ جازَ، كذا في المعراجِ)) "البحر الرائق" (2/368) ينظر: "بدائع الصنائع" (2/137)، "المبسوط" (4/63)..
القولُ الثالثُ: يجوزُ الدفعُ للضعفةِ ونحوِهِم بعدَ مغيبِ القمرِ، وهذا روايةٌ عن أحمدَ"شرح العمدة في بيان المناسك" (2/617). ، وهو قولُ البخاريِّ"صحيح البخاري" (2/165). ، واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ"شرح العمدة في بيان المناسك" (2/617). ، وتلميذِهِ ابنِ القيمِ"زاد المعاد "(2/252)..
وسببُ هذا الخلافِ هو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ للضعفةِ في التقدمِ إلى مِنَى مطلقًا من غيرِ توقيتٍ لهذا التقدمِ، ففي البخاريِ ومسلمٍ من حديثِ القاسمِ بنِ محمدٍ، عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: نزلْنا المزدلفةَ، فاستأذنَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سودةُ أن تدفعَ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ، وكانتِ امرأةً بطيئةً، فأذِنَ لها فدفعَتْ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ، وأقمْنا حتى أصبحْنا نحنُ، ثم دفعْنا بدفعِهِ"صحيح البخاري" (1681)، ومسلم (1290). ، وفي البخاريِّ ومسلمٍ من حديثِ أيوبَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ- رضيَ اللهُ عنهُما- قالَ: "بعثني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من جمعٍ بليلٍ""صحيح البخاري (1677)، ومسلم (1293)..
وفي البخاريِّ ومسلمٍ أيضًا من حديثِ الزهريِّ قالَ سالمٌ: وكانَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ- رضيَ اللهُ عنهُما- يقدِّمُ ضعفةَ أهلِهِ، فيقفونَ عندَ المشعرِ الحرامِ بالمزدلفةِ بليلٍ فيذكرونَ اللهَ ما بدا لهم ثم يرجعونَ قبلَ أن يقفَ الإمامُ وقبلَ أن يدفعَ، فمنهم مَن يقدمُ مِنَى لصلاةِ الفجرِ، ومنهم مَن يقدمُ بعدَ ذلك، فإذا قدموا رمَوْا الجمرةَ، وكانَ ابنُ عمرَ- رضيَ اللهُ عنهُما- يقولُ: أرخصَ في أولئك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ."صحيح البخاري"(1676)، ومسلم (1295).
ولذلك اختلفتْ آراءُ أهلِ العلمِ في وقتِ جوازِ الدفعِ، فلم يقدِّرْهُ الحنفيةُ بشيءٍ، وقدَّرَهُ المالكيةُ بحطِّ الرحلِ والنزولِ؛ لأنَّ به يتحققُ الوقوفُ واستمكانُ اللُّبثِ"مواهب الجليل "( 3/119)..
وقدَّرَهُ الشافعيةُ والحنابلةُ بنصفِ الليلِ؛ لأنه يكونُ بذلك قد مضَى أكثرُ الليلِ ومعظمُهُ مغني المحتاج (2/265)، المبدع شرح المقنع (3/ 263)..
أمَّا مَن قدَّرَهُ بمغيبِ القمرِ فعمدتُهُ ما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ ابنِ جريجٍ، حدثني عبدُ اللهِ مولى أسماءَ قالَ: قالتْ لي أسماءُ: وهي عندَ دارِ المزدلفةِ هلْ غابَ القمرُ؟ قلتُ: لا، فصلتْ ساعةً، ثم قالتْ: يا بُنَيَّ، هلْ غابَ القمرُ؟ قلتُ: نعمْ، قالتْ: ارحلْ بي، فارتحلْنا حتى رمَتِ الجمرةَ، ثم صلَّتْ في منزلِهَا، فقلتُ لها: أيْ هنتَاهُ لقدْ غلَّسْنَا؟ قالتْ: كلَّا، أي بنيَّ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذنَ للظُّعُنِ"صحيح البخاري" (1679)، ومسلم (1291)..
ومن هذا يتبيَّنُ أنه ليسَ هناك نصٌّ صريحٌ في تحديدِ قدرِ وقتِ النزولِ في مزدلفةَ الذي يتحققُ بهِ الوقوفُ الواجبُ لأصحابِ الأعذارِ، والذي يظهرُ لي أنَّ كلَّ تحديدٍ يمكنُ أن يَرِدَ عليهِ اعتراضٌ لعدمِ صراحةِ دلالةِ الأدلةِ عليهِ، ولكنْ بالنظرِ إلى العلَّةِ التي شُرِعَ من أجلِهَا تقديمُ الضعفةِ ونحوِهم، وهي توقِّي حَطْمَةِ الناسِ أي زحامِهِم، كما جاءَ في حديثِ عائشةَ المُتقدِّمِ، فيمكنُ أن يُقالَ: إنَّ الوقتَ الذي يجوزُ فيه الانصرافُ من مزدلفةَ هو ما يَتوقَّى بهِ الضعفةُ، ومَن في حكمِهِم ضررَ زحامِ الناسِ، وعلى هذا يجوزُ الانصرافُ قبلَ منتصفِ الليلِ إذا كانَ انصرافُهُم بعدَ منتصفِ الليلِ لن يَقِيَهُم الزحامَ.
وهذا الترجيحُ تشهدُ له علةُ الحكمِ، ويمكنُ أن يُستفادَ من قولِ الحنفيةِ الذين لم يحدُّوا حدًّا لوقتِ التقدُّمِ، بل إنهم قد ذهبوا إلى إسقاطِ الوقوفِ بمزدلفةَ خشيةَ الزحامِ فقالوا: ((من جاوزَ المزدلفةَ قبلَ طلوعِ الفجرِ فعليهِ دمٌ لتركِ الواجبِ إلا إذا جاوزَهَا ليلًا عن علةٍ وضعفٍ، فخافَ الزحامَ فلا شيءَ عليهِ)) "تبيين الحقائق" (2/61)..