المطلب الثاني: أثر الزحام في ترك الوقوف بمزدلفة:
اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ مجيءَ الحاجِّ إلى مزدلفةَ بعدَ الوقوفِ بعرفةَ من شعائرِ الحجِّ، وأنه من أعمالِهِ.
قالَ النوويُّ- رحمَهُ اللهُ: ((وهذا المبيتُ- أي بالمزدلفةِ- نسك ٌبالإجماعِ)) "المجموع شرح المهذب" (8/152).
وقال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (4/290): "المبيتُ بجمعٍ ليلةَ النَّحرِ سنةٌ مسنونةٌ مجتمعٌ عليها"، وقالَ أيضًا "الاستذكار" (4/ 291): "ولم يختلفوا أنه من لم يبتْ بجمعٍ ليلةَ النَّحرِ عليه دمٌ، وأنه لا يُسقطُ الدمَ عنه وقوفُهُ بها ولا مرورُهُ عليها"..
ومستندُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ البقرة:198.
قالَ الجصاصُ: "ولم يختلفْ أهلُ العلمِ أنَّ المشعرَ الحرامَ هو المزدلفةُ، وتُسمَّى جمعًا""أحكام القرآن" للجصاص (1/390).. وكذلك ما جاءتْ بهِ الأخبارُ المتواترةُ من مجيءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مزدلفةَ ومبيتِهِ بها ووقوفِهِ إلى الإسفارِ معَ قولِهِ صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ مسلمٌ"صحيح مسلم" (1297). من طريقِ أبي الزبيرِ عن جابرٍ رضيَ اللهُ عنه: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أُحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». ومعَ هذا الاتفاقِ إلا أنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في حكمِ المبيتِ بمزدلفةَ على ثلاثةِ أقوالٍ:
القولُ الأولُ: أنَّ الوقوفَ بمزدلفةَ واجبٌ من واجباتِ الحجِّ، وبهذا قالَ جمهورُ أهلِ العلمِ، منهم عطاءٌ، والزهريُّ، وقتادةُ، والثوريُّ"المغني" لابن قدامة (5/284). ، وهو المذهبُ عندَ الحنفيةِ"بدائع الصنائع" 2/136، "تبيين الحقائق" (2/21).
تنبيه: ومما ينبهُ إليه أنَّ الحنفيةَ والمالكيةَ يفرِّقونَ بين الوقوفِ والمبيتِ، فيرَوْنَ وجوبَ الوقوفِ وسُنيَّةَ المبيتِ. ، والمالكيةِ"الذخيرة" (3/263)، "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/332).، والحنابلةِ"كشاف القناع" (2/521)، "مطالب أولي النهى"(2/ 417). ، والأصحُّ عندَ الشافعيةِ"الحاوي الكبير "للماوردي (4/177)، "نهاية المحتاج" (3/299)..
القولُ الثاني: أنَّ الوقوفَ بمزدلفةَ ركنٌ من أركانِ الحجِّ، وبهذا قالَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ، منهم عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ، وعلقمةُ، والأسودُ، والشَّعبيُّ، والنَّخَعِيُّ، والحسنُ البصريُّ، والأوزاعيُّ، وبهِ قالَ أبو بكرِ بنُ خزيمةَ منَ الشافعيةِ ينظر: "التمهيد" لابن عبد البر (9/270)، "المجموع" (8/152)، "المغني" (5/284).، وابنُ حزمٍ"المحلى "(5/127)..
القولُ الثالثُ: أنَّ الوقوفَ بمزدلفةَ سُنَّةٌ من سننِ الحجِّ، وبهذا قالَ بعضُ المالكيةِ"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/332)، "مواهب الجليل" (3/119). ، والشافعيةِ"البيان" للعمراني (4/321)، "مغني المحتاج"(2/264). ، وهو روايةٌ عن أحمدَ"الفروع" (3/510)، "الإنصاف" (4/32)، "شرح العمدة في بيان المناسك" (2/610)..
وقدِ استدلَّ كلُّ قومٍ بأدلةٍ لِمَا ذهبوا إليهِ، وأقربُها إلى الصوابِ القولُ بأنَّ الوقوفَ بمزدلفةَ واجبٌ من واجباتِ الحجِّ، ووجْهُ الوجوبِ أنَّ ((فعلَهُ صلى الله عليه وسلم خرجَ امتثالًا لقولِهِ تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198]، والفعلُ إذا خرجَ امتثالًا لأمرٍ كانَ بمنزلتِهِ، والأمرُ للوجوبِ)) "شرح العمدة في بيان المناسك" (2/623)..
وبناءً على ما تقدمَ من أقوالِ أهلِ العلمِ في حكمِ الوقوفِ بمزدلفةَ ، فعلى القولِ بالركنيةِ فإنَّ من لم يتمكنْ منَ المجيءِ حتى فاتَ وقتُ الوقوفِ بمزدلفةَ بطلوعِ شمسِ يومِ النحرِ قال في "مراتب الإجماع" ص: (52) في بيان بداية وقت الوقوف في مزدلفة ونهايته: "اتفقوا على أنهُ من غروبِ الشفقِ من ليلةِ النحرِ إلى قبلِ طلوعِ الشمسِ من يومِ النحرِ وقتٌ للوقوفِ بمزدلفةَ". ، فقد فاتَهُ الحجُّ ويثبتُ لهُ أحكامُ الفواتِ، فمن حبسَهُ عنِ الوقوفِ بالمزدلفةِ السيرُ أو زحامُ السياراتِ أو ضلَّ الطريقَ أو أخطأَ المكانَ، فنزلَ في غيرِهَا حتى مضَى وقتُ الوقوفِ فقد فاتَهُ الحجُّ.
أمَّا على القولِ بالوجوبِ فإنَّ جماهيرَ العلماءِ يرَوْنَ أنَّ مَن لم يمكنْهُ الوقوفُ بالمزدلفةِ لعذرٍ كما لو حبسَهُ السيرُ أو ضلَّ الطريقَ أو أخطأَ المكانَ فنزلَ في غيرِهَا حتى مضَى وقتُ الوقوفِ، فإنهُ لا شيءَ عليهِ، وقد نصَّ على ذلك فقهاءُ الحنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ.
قالَ الكاسانيُّ في بدائعِ الصنائعِ: ((تركُ الوقوفِ بمزدلفةَ جائزٌ لعذرٍ)) "بدائع الصنائع" (2/136)..
وقالَ الخرشيُّ في شرحِهِ على مختصرِ خليلٍ: ((ومَن تركَ النزولَ من غيرِ عذرٍ حتى طلعَ الفجرُ لزمَهُ الدمُ، ومَن تركَهُ لعذرٍ فلا شيءَ عليهِ , ولو جاءَ بعدَ الشمسِ عندَ ابنِ القاسمِ)) "شرح مختصر خليل" (2/332). ، وقالَ النوويُّ في المجموعِ شرحِ المهذبِ: ((أمَّا مَن تركَ مبيتَ مزدلفةَ أو مِنى لعذرٍ فلا دمَ)) " المجموع شرح المهذب " (8/178)..
ومنَ الأعذارِ التي هي محلُّ البحثِ في هذهِ الدراسةِ الزحامُ، فإنَّ الزحامَ المُشَاهدَ في هذهِ الأزمنةِ قد يحولُ دونَ الوقوفِ في المزدلفةِ، إمَّا لعدمِ التمكُّنِ منَ الوصولِ إليها بسببِ زحمةِ السيرِ، وإمَّا لعدمِ التمكنِ منَ البقاءِ فيها لعدمِ تيسُّرِ مكانٍ للنزولِ أو للتضرُّرِ بهِ، أو لكونِ الحملةِ أو المطوفِ لن يمهلَ الحجاجَ للنزولِ أو نحوِ ذلك منَ الأسبابِ، فإنَّ الذي يظهرُ أنه يسقطُ الوقوفُ بالمزدلفةِ لهذه الأسبابِ ونحوِهَا منَ الأعذارِ المتعلقةِ بالزحامِ، ويمكنُ القولُ بأنَّ هذا هو مقتضَى ما ذكرَهُ فقهاءُ الحنفيةِ، والمالكيةِ، والشافعيةِ من سقوطِ الوقوفِ في مزدلفةَ بالعذرِ.
وقد نصَّ جماعةٌ من فقهاءِ الحنفيةِ على أنَّ الزحامَ عذرٌ في تركِ الوقوفِ بالمزدلفةِ، قالَ ابنُ نُجَيْمٍ في البحرِ الرائقِ: ((وقد قدمْنا عنِ البدائعِ وغيرِهِ أنَّ واجبَ الحجِّ إذا تركَهُ بعذرٍ لا شيءَ عليه، حتى لو تركَ الوقوفَ بالمزدلفةِ خوفَ الزحامِ، لا شيءَ عليهِ كما لا شيءَ على الحائضِ بتركِ طوافِ الصدرِ)) " البحر الرائق "(3/60)، وينظر: شرح معاني الآثار (2/210)..
أمَّا الحنابلةُ فأوجبوا الدمَ على مَن طلعَ عليهِ الفجرُ، ولم يأتِ المزدلفةَ سواءٌ كانَ بعذرٍ أو بغيرِ عذرٍ، قالَ البهوتيُّ في كشافِ القناعِ: ((وإن جاءَ مزدلفةَ بعدَ الفجرِ، فعليهِ دمٌ لتركِهِ نسكًا واجبًا)) "كشاف القناع"(2/497). ، ثم قالَ: ((عالمًا كانَ أو جاهلًا، ذاكرًا أو ناسيًا; لأنهُ تركَ نسكًا واجبًا، والنسيانُ إنما يؤثرُ في جعلِ الموجودِ كالمعدومِ، لا في جعلِ المعدومِ كالموجودِ)) "كشاف القناع"(2/497). ، بل مَن أحصرَهُ عدوٌّ عنِ المزدلفةِ بأنْ منعَهُ منَ المجيءِ إليها، كانَ عليهِ دمٌ، قالَ البهوتيُّ في كشافِ القناعِ: ((ومَن أُحصِرَ عن واجبٍ كرميِ الجمارِ لم يتحلَّلْ، وعليهِ لهُ- أي: لتركِهِ ذلك الواجبَ- دمٌ كما لو تركَهُ اختيارًا، وحجُّهُ صحيحٌ لتمامِ أركانِهِ)) "كشاف القناع"(2/528)..
ومع هذا فإنهم قد قالوا بسقوطِ المبيتِ ليلةَ مزدلفةَ عنِ السقاةِ والرعاةِ، قالَ في مطالبِ أُولِي النُّهى: ((ولا مبيتَ على سقاةٍ ورعاةٍ بمنى ومزدلفةَ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ"صحيح البخاري" (1634)، ومسلم (1315) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.: أنَّ العباسَ استأذنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يبيتَ بمكةَ ليالي مِنى من أجلِ سقايتِهِ، فأذِنَ لهُ)) "صحيح البخاري"(1634)، ومسلم(1315). متفقٌ عليهِ، وكذلك ما رواهُ الترمذيُّ"سنن الترمذي" (955). من حديثِ عديِّ بنِ عاصمٍ، عن أبيهِ قالَ: "رخَّصَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لرعاءِ الإبلِ في البيتوتةِ أن يرموا يومَ النحرِ، ثم يَجمَعُوا رميَ يومينِ بعدَ يومِ النحرِ يرمونَهُ في أحدِهِما". قالَ مالكٌ: ظننتُ أنه قالَ: في أولِ يومٍ منهما، ثم يرمونَهُ يومَ النحرِ، وقالَ: حسنٌ صحيحٌ، فألحقوا المبيتَ بمزدلفةَ في السقوطِ بالمبيتِ بمِنَى، لعذرِ السقايةِ والرعيِ، وهما منَ المصالحِ العامةِ للحجيجِ.
وتخريجًا على ما ذكروا من سقوطِ المبيتِ عنِ السقاةِ والرعاةِ، فإنَّ مَن يشبهُهُم في القيامِ بالأعمالِ العامةِ التي تتصلُ بمصالحِ الحجاجِ كرجالِ الأمنِ وأهلِ الطبِّ والتمريضِ ونحوِهِم، فإنهم يأخذونَ حكمَ السقاةِ والرعاةِ في سقوطِ المبيتِ بمزدلفةَ بجامعِ الاشتغالِ بمصالحِ الحجاجِ، واللهُ أعلمُ.