المطلب الأول: أثر الزحام في مكان صلاتي المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة:
الإجماعُ منعقدٌ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى المغربَ والعشاءَ بالمزدلفةِ بعدما دفعَ من عرفةَ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: ((أجمعَ العلماءُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دفعَ من عرفةَ في حجتِهِ بعدما غربتِ الشمسُ يومَ عرفةَ، أخَّرَ صلاةَ المغربِ ذلك الوقتَ فلم يصلِّها حتى أتى المزدلفةَ، فصلَّى بها المغربَ والعشاءَ، جمع بينهما بعدما غابَ الشفقُ، وأجمعوا أنَّ ذلك من سنةِ الحاجِّ كلِّهم في ذلك الموضعِ)) "الاستذكار" (4/330)، وينظر: "الإجماع" لابن المنذر ص (54)..
ومستندُ ذلك الإجماعِ ما جاءَ عن "جماعاتٍ منَ الصحابةِ منهم: ابنُ مسعودٍ، وابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ، وأبو أيوبَ الأنصاريُّ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وجابرٌ، وكلُّ رواياتِهِم في صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ، إلا جابرًا ففي مسلمٍ خاصَّةً""المجموع شرح المهذب" (8/116). أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جمعَ بالمزدلفةِ تلك الليلةَ بينَ المغربِ والعشاءِ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: "والجمعُ بينَ الصلاتينِ بمزدلفةَ منَ السنةِ المتواترةِ التي توارثَتْها الأمةُ""شرح العمدة في بيان المناسك" (2/514)..
بل قد ذهبَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ كأبي حنيفةَ، ومحمدِ بنِ الحسنِ، وزُفَرَ والحسنِ"بدائع الصنائع"(2/156)، "أحكام القرآن" للجصاص (1/390)، "التمهيد"(9/270). وبعضِ المالكيةِ"المدونة"(1/432)، "شرح الخرشي على مختصر خليل" (2/332)، " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/421).، والظاهريةِ"المحلى "لابن حزم (5/125). إلى أنَّ من صلَّى المغربَ والعشاءَ قبل أن يصلَ المزدلفةَ لم تجزئْهُ صلاتُهُ، واستدلوا بما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ كريبٍ مولى ابنِ عباسٍ، عن أسامةَ بنِ زيدٍ، أنه سمعَهُ يقولُ: دفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من عرفَةَ حتى إذا كانَ بالشِّعبِ نزلَ فبالَ، ثم توضأَ، ولم يسبُغِ الوضوءَ فقلتُ: الصلاةُ يا رسولَ اللهِ، فقالَ: «الصلاةُ أمامَكَ»، فركبَ فلمَّا جاءَ المزدلفةَ نزلَ، فتوضأَ فأسبغَ الوضوءَ ثم أقيمَتِ الصلاةُ، فصلَّى المغربَ ثم أناخَ كلُّ إنسانٍ بعيرَهُ في منزلِهِ، ثم أقيمَتِ العشاءُ فصلَّى، ولم يصلِّ بينهما"صحيح البخاري" (139)، ومسلم (1280)..
والذي عليه الجمهورُ من أهلِ العلمِ، أنه لو صلَّاها في عرفةَ أو في الطريقِ صحَّتْ صلاتُهُ وخالفَ السنةَ"تبيين الحقائق"(2/28)، "التمهيد"(9/270)، "التاج والإكليل" (4/169)، "روضة الطالبين".
والجميعُ متفقونَ على أنه إذا خشيَ خروجَ الوقتِ وخافَ الفواتَ، فإنه يجبُ أن يصليَهُما في الوقتِ، ولو قبلَ الوصولِ إلى المزدلفةِ. قالَ في بدائعِ الصنائعِ في وجوبِ صلاةِ المغربِ والعشاءِ في المزدلفةِ: ((هذا إذا كانَ يمكنُهُ أن يأتيَ مزدلفةَ قبلَ طلوعِ الفجرِ، فأما إذا خشيَ أن يطلعَ الفجرُ قبلَ أن يصلَ إلى مزدلفةَ؛ لأجلِ ضيقِ الوقتِ بأن كانَ في آخرِ الليلِ بحيثُ يطلعُ الفجرُ قبلَ أن يأتيَ مزدلفةَ فإنه يجوزُ بلا خلافٍ)) "بدائع الصنائع" (2/155)، وينظر: الذخيرة (3/262).، فإذا خافَ الحاجُّ خروجَ وقتِ صلاتَيِ المغربِ والعشاءِ بسببِ زحامِ وسائلِ النقلِ من عرفةَ إلى مزدلفةَ فإنَّ الواجبَ عليه أن يصليَهُما قبلَ خروجِ الوقتِ، ويفعلَ من شروطِ الصلاةِ، وأركانِهَا، وواجباتِهَا ما يقدرُ عليهِ؛ لقولِهِ تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ...} ولقولِهِ في صلاةِ الخائِفِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا...}.