المطلب الرابع: أثر الزحام في الإنصراف قبل غروب الشمس:
لا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ أنَّ السنةَ لمَن وقفَ بعرفةَ أنه لا ينصرفُ إلا بعدَ غروبِ الشمسِ. فقد ((أجمعَ العلماءُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دفعَ من عرفةَ بالناسِ، بعدما غربتِ الشمسُ يومَ عرفةَ)) حكاه ابن عبد البر في "التمهيد "(9/269). ، ومستندُ ذلك ما روى مسلمٌ في صحيحِهِ"صحيح مسلم"(1218). من حديثِ جابرٍ رضيَ اللهُ عنه في صفةِ حجِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ثم ركبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقفَ، فجعلَ بطنَ ناقتِهِ القصواءِ إلى الصخراتِ، وجعلَ حبلَ المشاةِ بينَ يديهِ، واستقبلَ القبلةَ فلم يزلْ واقفًا حتى غربتِ الشمسُ وذهبتِ الصفرةُ قليلًا حتى غابَ القرصُ".
وقد ذهبَ جماهيرُ العلماءِ منَ الحنفيةِ والشافعيةِ والحنابلةِ وغيرِهِم إلى أنه لا يجوزُ الدفعُ من عرفةَ قبلَ غروبِ الشمسِ، فمن دفعَ قبلَ غروبِ الشمسِ ولم يعُدْ إلى عرفاتٍ, فقالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ: يلزمُهُ دمٌ, ويجزئُهُ وقوفُهُ، وحجُّهُ صحيحٌ"المبسوط" (4/55)، "روضة الطالبين" (3/97)، "الإنصاف" (9/167). ، وخالفَ في ذلك مالكٌ، وذلك أنَّ المعتمدَ عندَهُ في الوقوفِ بعرفةَ هو الليلُ, فإن لم يدركْ شيئًا منَ الليلِ فقد فاتَهُ الحجُّ"المنتقى" للباجي (3/19)، "مواهب الجليل" (3/94)., وهو روايةٌ عن أحمدَ"الإنصاف" (9/167). ، وقد ذهبَ ابنُ حزمٍ إلى أنهُ لا شيءَ على مَن دفعَ من عرفةَ قبلَ غروبِ الشمسِ"المحلى" (5/111)..
وقد ذكرَ بعضُ فقهاءِ الحنفيةِ والمالكيةِ جوازَ التقدمِ قبلَ الإمامِ يومَ عرفةَ؛ خشيةَ الزحامِ، لكنهم اشترطوا للجوازِ ألَّا يجاوزَ عرفةَ بالخروجِ، قالَ في الهدايةِ:"فإن خافَ الزحامَ فدفعَ قبلَ الإمامِ ولم يجاوزْ حدودَ عرفةَ، أجزأَهُ لأنهُ لم يُفِضْ من عرفةَ""فتح القدير" (2/477). ، قالَ في مواهبِ الجليلِ: "مَن دفعَ قبلَ الغروبِ من المحلِّ الذي يقفُ فيه الناسُ، لأجلِ الزحمةِ، ونيتُهُ أن يتقدمَ للسعةِ ويقفَ حتى تغربَ الشمسُ فلا يضرُّهُ ذلك""مواهب الجليل"(3/ 94)..
ولم أقفْ على مَن أجازَ الدفعَ من عرفةَ قبلَ الغروبِ خوفَ الزحمةِ، بل قالَ الإمامُ أحمدُ لمَّا سُئلَ عن رجلٍ دفعَ قبلَ الإمامِ بعدَ غروبِ الشمسِ؟ قالَ رحمَهُ اللهُ: "ما وجدتُ عن أحدٍ أنهُ سهَّلَ فيهِ، كلُّهُم يُشدِّدُ فيهِ""المغني" (3/212).، وذلك لأنهُ لم يَرِدْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّصَ في الدفعِ قبلَ الغروبِ لأحدٍ، قالَ ابنُ عابدينَ في أنَّ خوفَ الزحامِ ليسَ رخصةً في الدفعِ قبلَ الغروبِ: "ولم يجعلْ عذرًا في عرفاتٍ؛ لمَا فيه من إظهارِ مخالفةِ المشركينَ، فإنهم كانوا يدفعونَ قبلَ الغروبِ فلْيتأملْ""حاشية ابن عابدين"( 2/512)، وقد وردَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخَّرَ الدفعَ من عرفةَ إلى ما بعدَ غروبِ الشمسِ مخالفةً للمشركينَ، بأسانيدَ فيها ضعفٌ، ففي المعجمِ الأوسطِ للطبرانيِّ (2/179) رقم (1644) من طريقِ أبي إسحاقَ الفزاريِّ عن سفيانَ الثوريِّ عن حسينِ بنِ عبدِ اللهِ عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ قالَ: كانَ المشركونَ يفيضونَ من عرفةَ قبلَ غروبِ الشمسِ ولا يفيضونَ من جمعٍ حتى تزولَ الشمسُ فخالفَهُم رسولُ اللهِ فدفعَ من عرفةَ بعدَ غروبِ الشمسِ حينَ أفطرَ الصائمُ ثم دفعَ من جمعٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ. لم يروِ هذا الحديثَ عن سفيانَ إلا أبوإسحاقَ الفزاريُّ إبراهيمُ بنُ محمدٍ. وفي مصنفِ ابنِ أبي شيبةَ (3/387)، رقمُ (15184) من طريقِ ابنِ جريجٍ قالَ: أُخبِرتُ عن محمدِ بنِ قيسٍ، عنِ المسورِ بنِ مخرمةَ بنِ عبدِ المطلبِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خطبَ بعرفةَ فقالَ: أمَّا بعدُ: فإنَّ هذا يومُ الحجِّ الأكبرِ، وإنَّ أهلَ الجاهليةِ والأوثانِ كانوا يدفعونَ في هذا اليومِ قبلَ غروبِ الشمسِ حينَ تعمُّ بها الجبالُ كأنهم عمائمُ الرجالِ في وجوهِهِم، وإنَّا ندفعُ بعدَ غروبِهَا، فلا تعجلوا بنا هديُنَا يخالفُ هديَ أهلِ الشركِ والأوثانِ، وفيه أيضًا (3/399)، رقمُ (15327) من طريقِ سفيانَ بنِ عيينةَ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه قالَ: كانَ أهلُ الجاهليةِ يدفعونَ من عرفاتٍ قبلَ غروبِ الشمسِ فأخَّرَ اللهُ هذه وقدَّمَ هذه؛ أخَّرَ التي من عرفةَ إلى غروبِ الشمسِ، وقدَّمَ التي من مزدلفةَ قبلَ طلوعِ الشمسِ. ، وعلى هذا فإنَّ الزحامَ ليسَ رخصةً في جوازِ الدفعِ من عرفةَ قبلَ الغروبِ.
فالواجبُ على الحجاجِ الانتظارُ حتى تغربَ الشمسُ ثم بعدَ ذلك يدفعونَ، ولهم أن يؤخروا الدفعَ إلى أن يخفَّ الزحامُ، وتذهبَ حَطْمَةُ الدفعِ، وذروةُ الازدحامِ، وبذلك يندفعُ الضررُ دونَ حرجٍ ومخالفةٍ، واللهُ أعلمُ.