المطلب الثاني: أثر الزحام في وقت دخول عرفة:
الثابتُ من هديِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يأتِ الموقفَ يومَ عرفةَ إلا بعدَ أن زالتِ الشمسُ، ففي حديثِ جابرٍ في صفةِ حجِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَ مسلمٍ قالَ رضي الله عنه: فأجازَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفةَ فوجدَ القبةَ قد ضُرِبَتْ له بنَمِرَةَ، فنزلَ بها حتى إذا زاغتِ الشمسُ أمرَ بالقصواءِ فرُحِلَتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطبَ الناسَ"صحيح مسلم" (1218)..
ولا خلافَ بين أهلِ العلمِ أنَّ ما قبلَ طلوعِ الفجرِ من يومِ عرفةَ ليسَ زمنًا للوقوفِ، وأجمعوا أيضًا على أنَّ مَن وقفَ بعرفةَ بعدَ الزوالِ فوقوفُهُ صحيحٌ"الاستذكار" (4/281). ، وقدِ اختلفوا في الوقوفِ بعدَ الفجرِ، وقبلَ الزوالِ هل يجزئُ أم لا؟ فذهبَ جماهيرُ العلماءِ منَ الحنفيةِ"بدائع الصنائع" (2/125-126). والمالكيةِ"مواهب الجليل" (3/94). والشافعيةِ"نهاية المحتاج" (3/299). وهو روايةٌ عن أحمدَ"الإنصاف" (4/23) وغيرُهم إلى أنَّ وقتَ عرفةَ يبدأُ من بعدِ الزوالِ، فمَن وقفَ قبلَ الزوالِ ولم يقفْ بعدَ ذلك، لم يصحَّ وقوفُهُ, وحجتُهُم وقوفُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ وقد قالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وذهبَ الحنابلةُ إلى أنَّ أولَ وقتِ الوقوفِ بعرفةَ مِن فجرِها واستدلُّوا بما رواه أحمدُ وأصحابُ السننِ من حديثِ عروةَ بنِ مُضَرِّسٍ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَكَانَ قَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» وهذا القولُ أقربُ إلى الصوابِ.
وقد نهَى جماعةٌ من أهلِ العلمِ أن يتقدمَ الحاجُّ إلى عرفةَ ليلةَ عرفةَ ووصفوهُ بأنهُ بدعةٌ.
قالَ النوويُّ: "وأمَّا ما يفعلُهُ معظمُ الناسِ في هذه الأزمانِ من دخولِهِم أرضَ عرفاتٍ قبلَ وقتِ الوقوفِ فخطأٌ وبدعةٌ ومنابذةٌ للسنةِ، والصوابُ أن يمكثوا بنَمِرَةَ حتى تزولَ الشمسُ ويغتسلوا بها للوقوفِ""المجموع شرح المهذب" (8/114)، وانظر أيضًا ص: (140).، وبهذا قالَ ابنُ الحاجِّ المالكيِّ"المدخل" لابن الحاج (4/227). قال: "فمن تركَ المبيتَ بمنى وباتَ بعرفةَ، فقد تركَ سنةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وابتدعَ". ، وقد ذكرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ التقدمَ، وأنه خلافُ السنةِ دونَ أن يصفَهُ بالبدعةِ، فقالَ- رحمَهُ اللهُ- في جملةِ ما يفعلُهُ الحجاجُ منَ المخالفاتِ في وقتِهِ: ((ويدخلونها قبلَ الزوالِ، ومنهم من يدخلُها ليلًا، ويبيتون بها قبلَ التعريفِ، وهذا الذي يفعلُهُ الناسُ كلَّهُ يُجزِي معه الحجُّ، لكن فيه نقصٌ عنِ السنةِ)) "مجموع الفتاوى" (26/131)..
والذي يظهرُ أنَّ وصفَ التقدمِ إلى عرفةَ ليلةَ عرفةَ بالبدعةِ، إنما يصدقُ على مَن فعلَ ذلك على وجهِ التعبدِ للهِ بالتقدمِ وأنهُ أفضلُ ؛ أمَّا مَن فعلَ ذلك للحاجةِ، وليسَ لقصدِ التعبدِ فإنه لا يصدقُ عليهِ أنهُ بدعةٌ، ومن هذا ما تفعلُهُ بعضُ حملاتِ الحجاجِ ,حيثُ يتقدمون في الدخولِ لعرفةَ ليلةَ عرفةَ، أو في يومِ الترويةِ خشيةَ الزحامِ، أوِ الضياعِ، أو فواتِ الرفقةِ، أو اتِّباعًا لتنظيماتِ تفويجِ الحجيجِ، فإنَّ ذلك جائزٌ لا حرجَ فيهِ، وقد نصَّ بعضُ الفقهاءِ على أنَّ الزحامَ عذرٌ في جوازِ التقدمِ إلى عرفةَ ليلةَ عرفةَ، مع قولِهِم بأنَّ التقدمَ بدعةٌ قبيحةٌ، قالَ الهيتميُّ- رحمَهُ اللهُ: "وما حدثَ الآنَ من مبيتِ أكثرِ الناسِ هذه الليلةَ بعرفةَ، بدعةٌ قبيحةٌ، اللهم إلا مَن يخافُ زحمةً""تحفة المحتاج "(4/105). ، هذا كلامُهُ- رحمَهُ اللهُ، فاعتبرَ الزحامَ عذرًا في جوازِ التقدمِ، معَ أنَّ أعدادَ الحجيجِ لا تقارنُ بأعدادِهِم في هذه الأزمانِ بعدَ تيسيرِ وسائلِ النقلِ وسهولةِ وصولِ كثيرٍ منَ الناسِ للحرمِ، كما أنَّ ضررَ الزحامِ في ذلك الزمانِ لا يُقارَنُ بضررِهِ في هذه الأيامِ، فكيف لو أدركَ زحامَ الناسِ اليومَ.