المبحث التاسع: أثر الزحام في النزول خارج الحرم:
مما يُلاحَظُ في السنواتِ الأخيرةِ كثرةُ عددِ الحجاجِ وازدحامُهم في مكةَ، حتى إنَّ كثيرًا منهم قد لا يُتيسرُ له منزلٌ إلا خارجَ الحرمِ، إمَّا لعدمِ وجودِ مسكنٍ مناسبٍ، أو عدمِ القدرةِ على الأجرةِ، أو إيثارًا للبعدِ عنِ الازدحامِ، ولهذا يخرجُ بعضُ الحجاجِ بعدَ فراغِهم من عمرتِهم إلى خارجِ الحرمِ.
وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ- رحمهمُ اللهُ- في أثرِ هذا الخروجِ على صحةِ التمتعِ بعدَ اتفاقِهم على أنَّ مَن قَدِمَ من غيرِ أهلِ مكةَ معتمرًا، وأقامَ فيها ثم أحرمَ بالحجِّ من عامِهِ فإنه متمتعٌ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: "وأجمعوا على أنَّ رجلًا من غيرِ أهلِ مكةَ، لو قَدِمَ مكةَ معتمرًا في أشهرِ الحجِّ عازمًا على الإقامةِ بها، ثم أنشأَ الحجَّ من عامِهِ ذلك فحجَّ، أنه متمتعٌ""التمهيد "(8/350)، وحكاه أيضا ابن المنذر في الإجماع ص: (64). ، أمَّا مَن لم يُقمْ في الحرمِ، بل خرجَ منها فقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في انقطاعِ متعتِهِ بذلك، على أقوالٍ:
القولُ الأولُ: أنَّ المتعةَ لا تنقطعُ بخروجِهِ منَ الحرمِ بعدَ عمرتِهِ، إلا إذا عادَ إلى بلدِهِ، وهذا قولُ عمرَ وابنِ عمرَ، وبه قالَ ابنُ المسيبِ، وطاوسٌ، ومجاهدٌ، وإبراهيمُ"مصنف ابن أبي شيبة "(3/156-157)، "أحكام القرآن" للجصاص (1/395)، "المحلى"(7/ 158).، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ"البدائع" (2/171)، "المسالك في المناسك" (1/658). ، ومالكٍ إلا أنَّ مالكًا رحمهُ اللهُ ألحقَ بالعودةِ إلى بلدِهِ ما لو عادَ إلى مثلِهِ في المسافةِ"المدونة" (1/309)، " شرح الخرشي على مختصر خليل" (2/312)..
القولُ الثاني: أنَّ المتعةَ لا تنقطعُ بخروجِهِ منَ الحرمِ، إلا إذا عادَ بعدَ عمرتِهِ إلى الميقاتِ الذي أحرمَ بالعمرةِ منهُ، أو إلى مسافةٍ مثلِ المسافةِ إليه، وهذا هو المذهبُ عندَ الشافعيةِ"أسنى المطالب" (1/464)، "مغني المحتاج" (2/289). ، وهو قولٌ عندَ الحنفيةِ"المبسوط" (4/31، 184)، "البحر الرائق" (2/369). ، وروايةٌ عن أحمدَ"الفروع" ( 3/311)، "الإنصاف" (3/441)..
القولُ الثالثُ: أنَّ المتعةَ لا تنقطعُ بخروجِهِ منَ الحرمِ بعدَ عمرتِهِ، إلا إذا سافرَ سفرًا تُقصَرُ في مثلِهِ الصلاةُ، وبهذا قالَ عطاءٌ"المحلى "(7/ 159). ، وهو مذهبُ الحنابلةِ"المغني"(5/354)، "كشاف القناع" (3/413)..
القولُ الرابعُ: أنَّ المتعةَ لا تنقطعُ بخروجِهِ منَ الحرمِ بعدَ عمرتِهِ مطلقًا إذا عادَ وحجَّ من عامِهِ، وهذا القولُ منقولٌ عنِ ابنِ عباسٍ والحسنِ البصريِّ"مصنف ابن أبي شيبة" ( 3/156-157). ، وهو قولُ ابنِ حزمٍ منَ الظاهريةِ"المحلى "( 7/ 158). ، وقد حُكِيَ الإجماعُ على خلافِهِ"الإجماع" لابن المنذر ص (64)، " التمهيد" (8/345)، "المجموع شرح المهذب" (7/161)..
هذا منتهى أقوالِ أهلِ العلمِ في هذه المسألةِ فيما اطلعتُ عليهِ، وقد ذكرَ كلٌّ منهم حجتَهُ التي استَظْهَرَ بها قولَهُ وما ذهبَ إليهِ، وهذا ذكرٌ لأبرزِها.
احتجَّ أصحابُ القولِ الأولِ: بأنَّ اللهَ تعالى خصَّ أهلَ مكةَ بأنهُ لم يجعلْ لهم متعةً وجعلها لسائرِ أهلِ الآفاقِ، كما قالَ: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ البقرة: 196 ، قالوا: والمعنى في ذلك إلمامُ أهلِ مكةَ بأهاليهِم بعدَ العمرةِ، معَ جوازِ الإحلالِ منها، قالوا: ((وذلك موجودٌ فيمَن رجعَ إلى أهلِهِ؛ لأنه قد حصلَ له إلمامٌ بأهلِهِ بعدَ العمرةِ، فكانَ بمنزلةِ أهلِ مكةَ)) "أحكام القرآن" للجصاص (1/395).. وقالوا أيضًا: ((إنَّ اللهَ جعلَ على المتمتعِ الدمَ بدلًا من أحدِ السفرينِ اللذينِ اقتصرَ على أحدِهِما, فإذا فعلَهُما جميعًا، لم يكنْ الدمُ قائمًا مقامَ شيءٍ, فلا يجبُ)) "أحكام القرآن" للجصاص (1/395)، ينظر:" التاج والإكليل "(4/78)..
وأمَّا أصحابُ القولِ الثاني فحجتُهُم: بأنَّ حقيقةَ المتعةِ هي الجمعُ بينَ الحجِّ والعمرةِ، دونَ الرجوعِ إلى الميقاتِ، فإذا عادَ إليه أو إلى مسافتِهِ فقدِ انقطعتْ المتعةُ"تحفة المحتاج"(4/152)، مغنى المحتاج (2/289)..
وأمَّا أصحابُ القولِ الثالثِ فقالوا: بأنَّ المتعةَ تزولُ فيما إذا سافرَ المعتمرُ للحجِّ سفرًا بعيدًا، وذلك لأنه "أنشأَ سفرًا بعيدًا لحجِّهِ، فلم يترفَّهْ بتركِ أحدِ السفرينِ، فلم يلزمْهُ دمٌ""مطالب أولي النهى" (2/309) وينظر: "الممتع في شرح المقنع" (2/332). ، ولا يكونُ متمتعًا.
وأمَّا أصحابُ القولِ الرابعِ فحجتُهُم: أنه ليسَ في النصوصِ الشرعيةِ ما يَشترطُ للمتعةِ ألَّا يخرجَ عن مكةَ إلى بلدِهِ، أو إلى المواقيتِ، أو إلى مسافةِ قصرٍ، ((ولو كانَ هذا من شرطِ التمتُّعِ، لمَا أغفلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيانَهُ)) "المحلى" (5/168-169)..
وأقربُ هذه الأقوالِ وأقواها حجةً؛ هو القولُ الأولُ، وأنَّ المتعةَ لا تنقطعُ بخروجِهِ منَ الحرمِ بعدَ عمرتِهِ، إلا إذا عادَ إلى بلدِهِ، واللهُ تعالى أعلمُ.
وعلى هذا فإنه يجوزُ للمتمتعِ أن يخرجَ منَ الحرمِ ويقيمَ حيثُ شاءَ، ولا تنقطعُ متعتُهُ ما دامَ أنه لم يرجعْ إلى بلدِهِ، ثم إذا جاءَ الحجُّ فإنَّ حكمَهُ حكمُ المكِّيِّ، فيجبُ أن يُحرمَ منَ الحرمِ، وهذا هو المذهبُ عندَ الحنفيةِ"فتح القدير" (3/114). والشافعيةِ"المجموع شرح المهذب" (7/199)، "تحفة المحتاج" (4/37). وروايةٌ عندَ الحنابلةِ"الإنصاف" (3/426).، وقيلَ: إنَّ له أن يحرمَ بالحجِّ منَ الحرمِ أو من حيثُ نزلَ في الحلِّ مما لا تنقطعُ المتعةُ بالخروجِ إليهِ، وهذا أقربُ الأقوالِ للصوابِ.