المطلب الثاني: أثر الزحام في زمان الحلق أو التقصير:
الثابتُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه حلقَ رأسَهُ في حجةِ الوداعِ، بعدَ نحرِ هديِهِ في منى يومَ النحرِ، كما دلَّ على ذلك ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ نافعٍ عنِ ابنِ عمرَ"صحيح البخاري" (1640)، ومسلم (1230)..
وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في جوازِ تأخيرِ الحلقِ أوِ التقصيرِ، عن أيامِ التشريقِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: لا يجوزُ تأخيرُ الحلقِ أوِ التقصيرِ عن أيامِ التشريقِ، وهو مذهبُ الحنفيةِ"بدائع الصنائع" (2/142)، "تبيين الحقائق" (2/34). والمالكيةِ"مواهب الجليل" (3/16)، "حاشية الدسوقي" (2/47).، وروايةٌ في مذهبِ أحمدَ"تصحيح الفروع" (3/516). ، وبهِ قالَ الثوريُّ وإسحاقُ"المجموع شرح المهذب" (8/192)، " أسنى المطالب" (1/492). ، وقدِ استدلوا بقولِ اللهِ تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الحج:29، وقضاءُ التفثِ يدخلُ فيه بلا نزاعٍ إزالةُ الشعرِ بالحلقِ"أضواء البيان" للشنقيطي(1/87). ، وقد دلَّ سياقُ الآياتِ على أنَّ الحلقَ يكونُ بعدَ الذبحِ وقبلَ الطوافِ، وهكذا فعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقد حلقَ صلى الله عليه وسلم يومَ النحرِ بعدَ ما نحرَ هديَهُ وقبلَ أنْ يطوفَ بالبيتِ، فدلَّ ذلك على أنه لا يجوزُ تأخيرُهُ عن يومِ النحرِ والأيامِ التابعةِ له، وهي الأيامُ التي يجوزُ فيها الذبحُ والنحرُ، أي أيامُ التشريقِ أوِ اليومينِ بعدَ يومِ النحرِ في قولٍ" المبسوط "(4/71)، " أحكام القرآن" للجصاص (3/254)..
القولُ الثاني: يجوزُ تأخيرُ الحلقِ والتقصِّي عن أيامِ التشريقِ، وهذا قولُ يوسفَ ومحمدِ بنِ الحسنِ صاحبَيْ أبي حنيفةَ" بدائع الصنائع" (2/141).، وهو مذهبُ الشافعيةِ" المجموع شرح المهذب" (8/168). والحنابلةِ في المشهورِ من مذهبِهِم"الإنصاف" (4/40)، "شرح منتهى الإرادات" (2/565). ، وبهِ قالَ عطاءٌ وأبو ثورٍ"المجموع شرح المهذب" (8/192).، واستدلوا بأنه ليسَ هناك ما يُحدِّدُ آخرَ وقتِ الحلقِ، وإنما الذي جاءَ هو توقيتُ مبدئِهِ في قولِ اللهِ تعالى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ البقرة: 196 "مختصر اختلاف العلماء" (2/183-184)، "تحفة المحتاج" (4/123)، "مطالب أولي النهى" (2/426)..
والذي يظهرُ أنه ينبغي ألَّا يؤخَّرَ الحلقَ أوِ التقصيرَ، عن يومِ النحرِ وأيامِ التشريقِ؛ لأنها محلُّ هذه الأنساكِ، لكنه لو أخَّرَ الحلقَ أوِ التقصيرَ لأجلِ الزحامِ أو غيرِهِ منَ الأعذارِ، فليسَ عليه شيءٌ، واللهُ أعلمُ.