المطلب الأول: أثر الزحام في مكان الحلق أو التقصير:
ظاهرُ السنةِ أنَّ الحلقَ أوِ التقصيرَ في العمرةِ يكونُ في مكةَ، فقد رَوَى البخاريُّ"صحيح البخاري"(1731). من طريقِ كريبٍ، عنِ ابنِ عباسٍ- رضيَ الله عنهما- قالَ: لما قدمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ، أمرَ أصحابَهُ أنْ يطوفوا بالبيتِ وبالصفا والمروةِ، ثم يُحلُّوا ويحلقوا أو يقصروا.
بل جاءَ ما يدلُّ على أنَّ ذلك يكونُ على المروةِ فورَ فراغِهِ، فقد رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ من طريقِ طاوسٍ، عنِ ابنِ عباسٍ، عن معاويةَ- رضيَ اللهُ عنهم- قالَ: قصرتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمشقصٍ، وهو على المروةِ"صحيح البخاري (1730)، ومسلم (1246). وهذا لفظُ مسلمٍ. أمَّا الحلقُ أوِ التقصيرُ في الحجِّ ففي منى، فقد رَوَى مسلمٌ"صحيح مسلم" (1305). من طريقِ هشامِ بنِ حسانٍ، عن ابنِ سيرينٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قالَ: لما رمَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الجمرةَ، ونحرَ نُسكَه وحلَقَ، ناولَ الحالقَ شقَّهُ الأيمنَ فحلقَهُ، ثم دعا أبا طلحةَ الأنصاريَّ فأعطاه إياه، ثم ناولَهُ الشقَّ الأيسرَ، فقالَ: «احلقْ»، فحلقَهُ فأعطاهُ أبا طلحةَ.
ولمَّا كانَ الزحامُ لا سيَّما في أيامِ المواسمِ، قد يكونُ سببًا لتأخيرِ الحلقِ أوِ التقصيرِ خارجَ الحرمِ، بلْ قد لا يحلقُ الحجاجُ أوِ العمارُ ولا يقصرونَ إلا إذا رجعوا إلى بلادِهم، ولأهلِ العلمِ في هذا التأخيرِ قولانِ:
القولُ الأولُ: أنَّ الحلقَ والتقصيرَ يصحانِ في الحرمِ وخارجَهُ، وقد قالَ بذلك أبو يوسفَ صاحبُ أبي حنيفةَ"بدائع الصنائع" (2/141)، " تبيين الحقائق" (2/78). ، وهو مذهبُ المالكيةِ"المدونة" (1/457)، "حاشية الدسوقي" (2/48). إلا أنهم قالوا: إذا رجَعَ إلى بلدِهِ ولم يحلقْ أو يقصرْ فعليه فديةٌ إلا إن كانَ جاهلًا أو ناسيًا. ، والشافعيةِ"المجموع شرح المهذب" (8/244)، " أسنى المطالب" (1/502). ، والحنابلةِ"الفروع" (3/ 468)، "كشاف القناع" (2/462)..
والقولُ الثاني: أنَّ الحلقَ والتقصيرَ نُسُكانِ لا يصحَّانِ إلا في الحرمِ فلا يصحُّ تأخيرُهما إلى الحلِّ، فإنْ فعلَ فعليهِ دمٌ، وهو المذهبُ عند الحنفيةِ"البحر الرائق" (3/26)، "فتح القدير" (3/128).، وبه قالَ محمدُ بنُ الحسنِ.
وأقربُ هذينِ القولينِ إلى الصوابِ، ما ذهبَ إليه الجمهورُ من جوازِ تأخيرِ الحلقِ أوِ التقصيرِ إلى الحِلِّ، وإنْ كانَ الأَوْلَى ألَّا يخرجَ منَ الحرمِ إلا وقد أنهَى ما يتعلقُ بالنسكِ حجًّا كانَ أو عمرةً، يدلُّ لذلك أنَّ اللهَ أخبرَ عن حالِ الصحابةِ حينَ وعَدَهم أنهم سيدخلونَ المسجدَ الحرامَ مُحلِّقينَ ومُقصِّرينَ فقالَ سبحانه وتعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ الفتح: 27، لذا ينبغي ألَّا يخرجَ بهما عنِ الحرمِ، ويمكنُ أنْ يُستدلَّ للجواز بما رواه البخاريُّ"صحيح البخاري" (2701). من طريقِ نافعٍ، عنِ ابنِ عمرَ- رضيَ اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرجَ معتمرًا، فحالَ كفارُ قريشٍ بينه وبينَ البيتِ، فنحرَ هديَهُ وحلقَ رأسَهُ بالحديبيةِ، والحديبيةُ خارجَ الحرمِ، كما قالَ بعضُ أهلِ العلمِ، وقالَ آخرونَ: بعضُها في الحلِّ وبعضُها في الحرمِ، ومهما يكنْ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرْ أحدًا من أصحابِهِ بأنْ يتحرَّى الحلاقَ أوِ التقصيرَ في الحرمِ، ويؤيدُ هذا أنَّ الحلاقَ أوِ التقصيرَ فعلٌ لا يتعلقُ بمكانٍ منَ الحرمِ ولا يتعدَّى نفعُهُ، فكانَ الحلُّ والحرمُ فيه سواءٌ، إلا من جهةِ فضلِ المكانِ الذي تَعظُمُ بهِ الأجورُ، واللهُ أعلمُ.