المطلب الثاني: أثر الزحام في تقديم السعي على الطواف:
لا خلافَ بين أهلِ العلمِ في أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما سعَى بين الصفا والمروةِ في حجِّه وعمرتِهِ، بعد طوافِهِ بالبيتِ، رَوَى ذلك عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رواه البخاري (1646)، ومسلم (1234) من طريق عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر. وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ رواه مسلم (1213)، من طريق أبي الزبير، عن جابر. وأبو هريرةَ رواه مسلم (1780) . وعبدُ اللهِ بنُ أبي أَوْفَى رواه البخاري (4188) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى. رضيَ اللهُ عنهم، قالَ الماورديُّ في وجوبِ تقديمِ الطوافِ على السعيِ: "فمِنْ شرطِ صحتِهِ– أي السعيِ- أنْ يتقدمَهُ الطوافُ، وهو إجماعٌ ليس يُعرفُ فيه خلافٌ بين الفقهاءِ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يسعَ قطُّ إلا عُقَيبَ طوافٍ""الحاوي الكبير" (4/157)..
وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ رحمهمُ اللهُ، في تقديمِ السعْيِ على الطوافِ، فذهبَ جمهورُ العلماءِ إلى أنه لا يجوزُ تقديمُ السعْيِ على الطوافِ، وقد تقدمَ حكايةُ الماورديِّ الإجماعَ على ذلك، وهو إجماعٌ غيرُ منضبطٍ، فقد قالَ عطاءٌ"المغني" (5/240). والثوريُّ" بداية المجتهد" (1/250). والأوزاعيُّ بيان مشكل الآثار للطحاوي (15/119). بجوازِ تقديمِ السعْيِ على الطوافِ، ونقلَهُ الجوينيُّ عن بعضِ أئمةِ الشافعيةِ"المجموع شرح المهذب" ( 8/76-77). ، وفي روايةٍ عن أحمدَ أنه يجزئُ تقديمُ السعْيِ على الطوافِ حالَ النسيانِ والجهلِ"الإنصاف" (4/21). ، وقدِ استدلَّ القائلونَ بجوازِ تقديمِ السعيِ على الطوافِ بأنه قدْ جاءَ الإذنُ بتقديمِ السعيِ على الطوافِ، فيما رواه أبو داودَ"سنن أبي داود" (2051)، قال عنه البيهقي في سننه (5/146)غريب تفرد به جرير، عن الشيباني فإن كان محفوظًا مكانهُ سألَهُ عن رجلٍ سعى عُقَيْبَ طوافِ القدومِ قبلَ طوافِ الإفاضةِ فقالَ: لا حرجَ . منْ طريقِ زيادِ بنِ علاقةَ، عن أسامةَ بنِ شريكٍ، قالَ: خرجتُ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فكانَ الناسُ يأتونه، فمِن قائلٍ: يا رسولَ اللهِ، سعيتُ قبل أنْ أطوفَ، أو قدَّمتُ شيئًا، أو أخَّرتُ شيئًا، فكان يقولُ: «لا حرجَ، لاحرجَ، إلا على رجلٍ اقترضَ عرضَ رجلٍ مسلمٍ، وهو ظالمٌ، فذلك الذي حرجَ وهلكَ».
ويشهدُ له أيضًا ما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ مالكٍ، عنِ ابنِ شهابٍ، عن عيسى بنِ طلحةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقفَ في حجةِ الوداعِ فجعلوا يسألونه، فقالَ رجلٌ: لم أشعرْ فحلقتُ قبل أنْ أذبحَ؟ قالَ: «اذبحْ ولا حرجَ». فجاءَ آخرُ فقالَ: لم أشعرْ فنحرتُ قبل أنْ أرميَ؟ قالَ: «ارمِ ولا حرجَ». فما سئِلَ يومئذٍ عن شيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ، إلا قالَ: «افعلْ ولا حرجَ»"صحيح البخاري"(1738)، ومسلم (1306)..
وجاءَ مثلُهُ في الصحيحينِ من حديثِ عطاءٍ، عنِ ابنِ عباسٍ- رضيَ اللهُ عنهما: (سُئلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عمَّن حلقَ قبل أنْ يذبحَ ونحوِهِ فقالَ: «لا حرجَ.. لا حرجَ») .
قالَ ابنُ التركمانيِّ: "وعمومُ قولِ الصحابيِّ: (ما سُئِلَ عن شيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ») يدلُّ على جوازِ ذلك، وهو مذهبُ عطاءٍ والأوزاعيِّ، واختارَهُ ابنُ جريرِ الطبريُّ في تهذيبِ الآثارِ" الجوهر النقي (5/146).
أمَّا تقديمُ السعيِ على الطوافِ لأجلِ الزحامِ فلم أقفْ عليه في كلامِ أهلِ العلمِ؛ حيثُ إنَّ العذرَ الذي ذكرَهُ القائلونَ بوجوبِ الترتيبِ بين الطوافِ والسعْيِ هو النسيانُ والجهلُ.
والذي يظهرُ لي: أنه لا حرجَ في تقديمِ السعْيِ على الطوافِ لأجلِ الزحامِ فإنَّ عمومَ الأدلةِ في جوازِ التقديمِ داخلةٌ في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ : «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». فهذا يشملُ التقديمَ لأجلِ الزحامِ، لا سيَّما وقد جاءَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على اعتبارِ الزحامِ سببًا للتخفيفِ في أعمالِ النسكِ، حيثُ أذِنَ للضَّعفةِ في الدفعِ من مزدلفةَ، قبل حَطْمَةِ الناس أي زحمتِهم"النهاية في غريب الحديث"، مادة(حطم) (1/402). ، فقد رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ القاسمِ بنِ محمدٍ، عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، قالتْ: نزلْنا المزدلفةَ فاستأذنتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سودةُ أن تدفعَ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ، وكانتِ امرأةً بطيئةً، فأذِنَ لها فدفعتْ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ"صحيح البخاري"(1681)، ومسلم(1290)..