المسألة الثانية: أثر الزحام في السعي في علو المسعى:
الثابتُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سعَى في بطنِ الوادي الذي بين الصفا والمروةِ، رَوَى مسلمٌ"صحيح مسلم" (1218). في صحيحِهِ، من طريقِ جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ رضيَ اللهُ عنه في صفةِ حجِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ثم نزلَ إلى المروةِ حتى إذا انصبتْ قدماهُ في بطنِ الوادي سعَى، حتى إذا صعَدَتَا مشى، حتى أتى المروةَ".
وقد ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ المعاصرونَ إلى جوازِ السعيِ في علوِّ المَسعَى، سواءٌ في الدورِ الثاني، أوِ السطحِ، وذلك لعدةِ أوجهٍ تعضدُهُ وتقويهِ، أشارَ إليها بحثُ اللجنةِ الدائمةِ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ولخَّصَهُ قرارُ الهيئةِ في عدةِ وجوهٍ:
الأولُ: أنَّ حكمَ أعلى الأرضِ وأسفلِها تابعٌ لحكمِها في التملكِ والاختصاصِ ونحوِهما، فللسعيِ فوقَ سقفِ المَسعَى حكمُ السعيِ على أرضِه.
الثاني: جوازُ السعيِ بين الصفا والمروةِ راكبًا لعذرٍ باتفاقٍ، ولغيرِ عذرٍ على خلافِ بعضِهم، فمَنْ يسعى فوقَ سقفِ المَسعَى يُشبِهُ مَن يسعَى راكبًا بعيرًا ونحوَهُ، إذِ الكلُّ غيرُ مباشرٍ للأرضِ في سعيِهِ، وعلى رأيِ مَن يرَى جوازَ السعيِ راكبًا لغيرِ عذرٍ، فإنَّ ازدحامَ السعاةِ في الحجِّ يُعتبرُ عذرًا يُبرِّرُ الجوازَ.
الثالثُ: أجمعَ أهلُ العلمِ على استقبالِ ما فوقَ الكعبةِ مِن هواءٍ في الصلاةِ، كاستقبالِ بنائِها، بناءً على أنَّ العبرةَ بالبقعةِ لا بالبناءِ، فالسعْيُ فوقَ سقفِ المَسعَى كالسعيِ على أرضِهِ.
الرابعُ: أنَّ السعيَ فوقَ سقفِ المَسعَى، لا يخرجُ عن مُسمَّى السعيِ بين الصفا والمروةِ، ولِمَا في ذلك منَ التيسيرِ على المسلمينَ والتخفيفِ ممَّا هم فيه منَ الضيقِ والازدحامِ.
وبناءً على ما تقدمَ، صدرَ قرارُ مجلسِ هيئةِ كبارِ العلماءِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ونصُّه: ((بعدَ تداوُلِ الرأيِ والمناقشةِ، انتهى المجلسُ بالأكثريةِ إلى الإفتاءِ بجوازِ السعْيِ فوقَ سقفِ المَسعَى عند الحاجةِ، بشرطِ استيعابِ ما بين الصفا والمروةِ، وألَّا يخرجَ عن مسامتَةِ المَسعَى عرضًا)) أبحاث هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (1/24). ، وبهذا قالَ شيخُنا محمدٌ الصالحُ العثيمينُ- رحمهُ اللهُ، ولا ريبَ أنَّ هذا القولَ قولٌ وجيهٌ بيِّنُ الرجحانِ، وتقييدُ فتوى جوازِ السعْيِ في علوِّ المَسعَى بالحاجةِ يدخلُ فيها الزحامُ فهو حاجةٌ بلا ريبٍ لا سيَّما في الحجِّ والمواسمِ، واللهُ أعلمُ.