المسألة الأولى: الأصل في موضع السعي:
لا خلافَ بين أهلِ الإسلامِ، أنَّ السعيَ المشروعَ في الحجِّ والعمرةِ، هو ما كانَ بين الصفا والمروةِ، ويدلُّ لذلك قولُ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:158)، ويدلُّ له أيضًا عملُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ففي "صحيحِ مسلمٍ""صحيح مسلم" (1218). من طريقِ جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ رضيَ اللهُ عنه في حديثِ صفةِ حجِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ثم خرجَ منَ البابِ إلى الصفا، فلما دنا منَ الصفا قرأَ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، فبدأَ بالصفا فرقِيَ عليه"، والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ.
وقدِ اختلفَ الفقهاءُ فيمَن خرجَ قليلًا في بعضِ سعيِهِ عن موضعِ السعيِ، وهو ما بين الصفا والمروةِ، هل يجزئُهُ ذلك؟ على قولينِ:
القولُ الأولُ: أنه لا يجزئُهُ، لأنَّ الواجبَ استيعابُ ما بين الصفا والمروةِ في سعيِهِ، وبهذا قالَ جماهيرُ العلماءِ.
القولُ الثاني: أنه يجزئُهُ، لأنه لا يخرجُ بذلك عن كونِهِ ساعيًا بين الصفا والمروةِ، ولأنه ليسَ هناك نصٌّ يَضبطُ قدرَ عرضِ موضعِ السعيِ، قالَ الشروانيُّ- رحمهُ اللهُ- في بيانِ وجهِ هذا القولِ: "الظاهرُ أنَّ التقديرَ لعرضِهِ بخمسةٍ وثلاثينَ أو نحوِها على التقريبِ، إذ لا نصَّ فيه يُحفظُ عنِ السنةِ، فلا يضرُّ الالتواءُ اليسيرُ لذلك""حواشي الشرواني على تحفة المحتاج" (4/98). ، والذي يظهرُ أنَّ هذا القولَ لا يخالفُ القولَ السابقَ، كما ذكرَ ذلك جماعةٌ من أهلِ العلمِ، فإنه محمولٌ على ما إذا التوَى يسيرًا بما لا يخرجُ به عن كونِهِ ساعيًا بين الصفا والمروةِ.
قالَ النوويُّ- رحمهُ اللهُ: "قالَ الشافعيُّ في القديمِ: فإنِ التوَى شيئًا يسيرًا أجزأَهُ، وإنْ عدلَ حتى يُفارقَ الواديَ المؤدِّيَ إلى زقاقِ العطارينَ لم يَجُزْ، وكذا قالَ الدارميُّ: إنِ التوَى في السعيِ يسيرًا جازَ، وإن دخلَ المسجدَ أو زقاقَ العطارينَ فلا، واللهُ أعلمُ""المجموع شرح المهذب" (8/103)..
ومما تقدمَ يتبيَّنُ أنه لا يجوزُ الخروجُ في السعيِ بين الصفا والمروةِ عما بينهما في أيِّ اتجاهٍ كانَ؛ لأنه خروجٌ عما شرعَ اللهُ تعالى منَ السعيِ بين الصفا والمروةِ، قالَ الشنقيطيُّ- رحمَهُ اللهُ- في"تفسيرِهِ": "لا يجوزُ السعيُ في غيرِ موضعِ السعيِ، فلو كانَ يمرُّ من وراءِ المَسْعَى حتى يصلَ إلى الصفا والمروةِ من جهةٍ أخرى لم يصحَّ سعيُهُ، وهذا لا ينبغي أن يُختلفَ فيه، وعنِ الشافعيِّ في القديمِ: أنه لو انحرفَ عن موضعِ السعيِ انحرافًا يسيرًا أنه يجزئُهُ، والظاهرُ أنَّ التحقيقَ خلافُهُ، وأنه لا يصحُّ السعيُ إلا في موضعِهِ""أضواء البيان" (4/ 433)..
لكن هل يُقالُ: إنه لو ازدحمَ المسعى بحيثُ لا يمكنُهُ السعيُ إلا خارجَهُ فإنه يجزئُهُ؟ فيه احتمالٌ، قياسًا على ما تقدمَ من جوازِ اجتيازِ المَسْعَى في الطوافِ لأجلِ الزحامِ، ومما يؤيدُ هذا أنه ليسَ لقدرِ عرضِ المَسْعَى حدٌّ يُصارَ إليهِ من جهةِ الشرعِ، فكلُّ ما كانَ بين الجبلينِ فإنه موضعٌ للسعيِ، وقد وقفْتُ على كلامٍ لشيخِنا محمدِ بنِ عثيمينٍ رحمَهُ اللهُ علَّقَ فيهِ على ما ذكرَهُ بعضُ علماءِ الشافعيةِ فيما يتصلُ بحدِّ المَسْعَى، فقالَ- رحمَهُ اللهُ: "ورأيي في هذه المسألةِ واللهُ أعلمُ أنَّ الزيادةَ فيه لا تضرُّ من الجانبينِ خصوصًا عند الحاجةِ ما دامَ داخلًا في اسمِ المَسْعَى بين الصفا والمروةِ، وذلك لوجوهٍ:
الأولُ: أنه لم يَرِدْ نصٌّ صريحٌ في تحديدِهِ بالذراعِ حتى يجبَ المصيرُ إليه، وأمَّا تحديدُ بعضِ المؤرخينَ له فالظاهرُ أنه حكايةٌ عنِ الواقعِ.
الثاني: أنه لو فُرِضَ تحديدُهُ فإمَّا أن يكونَ بطريقِ أمِّ إسماعيلَ أي بالخطِّ الذي كانتْ تمشي عليه أو بأكثرَ من ذلك، فإنْ كانَ بالخطِّ الذي تمشي عليهِ فقد دلَّ الدليلُ على أنه غيرُ معتبَرٍ؛ لأنَّ الخطَّ الذي تمشي عليه ضيقٌ جدًّا، والمَسعَى الآنَ أوسعُ منه، إلا أنْ يقالَ: إنها لا تمشي على خطٍّ واحدٍ بل على خطوطٍ أطرافُها غربًا وشرقًا طرَفَا المَسعَى، فإنْ كانَ كذلك فهو دليلٌ أيضًا على أنَّ الأمرَ مُوسَّعٌ، وإنْ كانَ أكثرَ من ذلك، فإنَّ الظاهرَ أنه غيرُ محدَّدٍ، إلا أنْ يكونَ بين الصفا والمروةِ، وإلا لورَدَ تحديدُهُ.
الثالثُ: أنَّ الطوافَ وهو المختصُّ بالمسجدِ يجوزُ خارجَ الحدودِ التي كانت في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما دامَ الطائفُ في المسجدِ، فكيف لا يجوزُ السعيُ خارجَ الحدودِ التي في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما دامَ ساعيًا بين الصفا والمروةِ، هذا إنْ ثبتَ أنَّ السعيَ مُحدَّدٌ معَ أنَّ الظاهرَ أنه غيرُ مُحدَّدٍ في ذلك الوقتِ، وأنَّ الناسَ ينتشرونَ فيه.
الرابعُ: أنَّ العلماءَ نصُّوا على أنَّ الزيادةَ التي تُلحقُ بالمسجدُ يثبتُ لها حكمُ المسجدِ، فلْيثبتْ حكمُ المَسعَى للزيادةِ التي تُلحقُ به، هذا ما يظهرُ لي، واللهُ أعلمُ"اهـ"مجموعة الشيخ العلامة عبد الله بن عقيل العلمية" (11/157-158)..
ولا ريبَ أنَّ الزحامَ حاجةٌ تقتضِي التوسيعَ ما دامَ أنَّ في الأمرِ مُتَّسعًا، واللهُ أعلمُ.