المسألة الأولى: الموالاة في الطواف حال الزحام:
اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ قطعَ الطوافِ لاستراحةٍ يسيرةٍ لا يؤثرُ في صحةِ الطوافِ ينظر "الحاوي الكبير" للمرداوي (4/148).، وإن كانَ قد كرهَهُ بعضُ أهلِ العلمِ كما جاءَ عن مجاهدٍ ينظر "المصنف" لابن أبي شيبة (4/456)..
وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في الموالاةِ في الطوافِ، على قولينِ في الجملةِ:
القولُ الأولُ: أنَّ الموالاةَ بينَ أشواطِ الطوافِ شرطٌ لصحتِهِ، وهذا مذهبُ المالكيةِ ينظر: "مواهب الجليل" (3/75)، "حاشية الدسوقي" (2/32).، والشافعيِّ في القديمِ ينظر:" المجموع شرح المهذب" ( 8/64).، والحنابلةِ ينظر: "الإنصاف" (9/117)، "كشاف القناع" (2/483)..
القولُ الثاني: أنَّ الموالاةَ بينَ أشواطِ الطوافِ سنةٌ، وهذا مذهبُ الحنفيةِ ينظر: بدائع الصنائع (2/ 130)، "المبسوط" (4/48).، والصحيحُ عندَ الشافعيةِ ينظر: أسنى المطالب (8/479)، "نهاية المحتاج" (3/287).، وهو روايةٌ عنْ أحمدَ ينظر: "الفروع" (3/371)، "الإنصاف" (9/117).، وهو مذهبُ ابنِ حزمٍ منَ الظاهريةِ ينظر: "المحلى" (7/180)..
وقد استدلَّ كلُّ فريقٍ بأدلةٍ تنصُرُ ما ذهبَ إليه، والأقربُ أنَّ الموالاةَ شرطٌ لصحةِ الطوافِ.
ومما لا يُنافي الموالاةَ في قولِ مَن ذهبَ إلى أنها شرطٌ لصحةِ الطوافِ الفصلُ اليسيرُ في أثناءِ الطوافِ، فالمالكيةُ وهم أشدُّ المذاهبِ في اشتراطِ الموالاةِ رخَّصوا بالفصلِ اليسيرِ معَ الكراهةِ ينظر: "المنتقى شرح الموطأ"(2/289)، "مواهب الجليل" (3/75).، قالَ الخَرَشِيُّ: ((إنَّ التواليَ بين أشواطِ الطوافِ شرطٌ، فإن فرَّقه لم يُجْزِهِ إلا أن يكونَ التفريقُ يسيرًا، أو يكونَ لعذرٍ، وهو على طهارتِهِ)) "شرح الخرشي على مختصر خليل" (2/315).، وبهذا قالَ الحنابلةُ أيضًا، قالَ البهوتيُّ: ((وإن قطعَ الطوافَ بفصلٍ يسيرٍ، بَنَى منَ الحَجَرِ؛ لعدمِ فواتِ الموالاةِ بذلك)) "كشاف القناع" (2/484 )..
ومما لا يُنافي الموالاةَ في قولِ مَن ذهبَ إلى أنها شرطٌ لصحةِ الطوافِ أيضًا قطعُ الطوافِ لعذرٍ، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في سياقِ تقريرِهِ أنَّ تركَ الموالاةِ فيما تُشترطُ فيهِ، لا يؤثرُ إذا كانَ تركُهَا لعذرٍ: ((وأيضًا فالموالاةُ في الطوافِ والسعيِ أوكدُ منه في الوضوءِ، ومعَ هذا فتفريقُ الطوافِ لمكتوبةٍ تُقَامُ أو جنازةٍ تحضرُ، ثم يَبني على الطوافِ ولا يَستأنفُ، فالوضوءُ أولى بذلك، وعلى هذا فلو توضأَ بعضَ الوضوءِ، ثم عرضَ أمرٌ واجبٌ يمنعُهُ عنِ الإتمامِ، كإنقاذِ غريقٍ أو أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ فعلَهُ، ثم أتمَّ وضوءَهُ كالطوافِ وأولى، وكذلك لو قُدِّرَ أنه عرضَ له مرضٌ منعَهُ من إتمامِ الوضوءِ، وأيضًا فإنَّ أصولَ الشريعةِ تُفرِّقُ في جميعِ مواردِها بين القادرِ والعاجزِ، والمفرطِ والمعتدي، ومَن ليس بمفرطٍ ولا معتدٍ، والتفريقُ بينهما أصلٌ عظيمٌ معتمدٌ، وهو الوسطُ الذي عليه الأمةُ الوسطُ، وبه يظهرُ العدلُ بين القولينِ المتباينينِ)) "مجموع الفتاوى" (11/140-141)..
وقد نصَّ القائلونَ باشتراطِ الموالاةِ لصحةِ الطوافِ وهمُ: المالكيةُ ينظر: "المنتقى شرح الموطأ"(2/289)، "مواهب الجليل" (3/75)، "شرح الخرشي على مختصر خليل "(2/315). والشافعيُّ في القديمِ"الأم" (2/194).، والحنابلةُ على جوازِ القطعِ لعذرٍ بشرطِ ألَّا يطولَ الفصلُ ينظر: " المغني" (5/248)، "الفروع" (3/371)، "الإنصاف" (9/117)..
وبناءً على ما تقدمَ فإنَّ قطْعَ الطوافِ للزحامِ الذي يلحقُ المكلَّفَ فيه ضيقٌ ومشقةُ عذرٍ لا يُفوِّتُ الموالاةَ، سواءٌ أكانَ قطعُ الطوافِ للاستراحةِ، أم لدفعِ المضرةِ الحاصلةِ بالـزحامِ، أم لتكميلِ الطوافِ في مكانٍ آخرَ كالانتقالِ من دورٍ إلى دورٍ آخرَ أو السطحِ بعيدًا عن شدةِ الـزحامِ، أم لوقوفِ الطائفينَ للصلاةِ وغيرِها، وقد نصَّ الشافعيُّ على جوازِ قطعِ الطوافِ لأجلِ الزحامِ وأنَّ ذلك لا يؤثرُ على الموالاةِ فقالَ: "أو يصيبُهُ زحامٌ فيقفُ، لا يكونُ ذلك قطعًا، أو يعيا فيستريحُ قاعدًا فلا يكونُ ذلك قطعًا، أو ينتقضُ وضوؤُهُ فيخرجُ فيتوضأُ، وأحبُّ إليَّ إذا فعلَ أن يبتدئَ الطوافَ ولا يبني على طوافِهِ، وقد قيلَ: يبني ويجزيه إن لم يتطاولْ، فإذا تطاولَ ذلك لم يُجْزِهِ، إلا الاستئنافُ)) "الأم "(2/195)..
وبإسقاطِ اشتراطِ الموالاةِ لأجلِ الزحامِ، قالَ شيخُنا محمدٌ العثيمينُ رحمَهُ اللهُ"الشرح الممتع على زاد المستقنع" (7/276)، روضة الطالبين (3/79)، المغني لابن قدامة (3/400).: ومما يُعَضِّدُ هذا القولَ ما سبق بيانُهُ من أنَّ الزحامَ منَ الأعذارِ التي توجبُ التَّخفيفَ.
وأما بخصوصِ قدرِ طولِ الفصلِ فالحنفيةُ يرونَ أنه لا حدَّ له حتى أنهم قالوا فيمن طافَ ثلاثةَ أشواطٍ في طوافِ الإفاضةِ ثم رجعَ إلى بلدِهِ أنه يعودُ ويطوفُ ما بقيَ، وقالَ آخرونَ: بلِ المرجعُ في طولِ الفصلِ وقِصَرِهِ إلى العرفِ المجموع شرح المهذب (8/47). والذي يظهرُ لي أنه ما دامَ أنَّ سببَ الإخلالِ بالموالاةِ هو الحاجةُ والعذرُ فإنَّ قدرَ الفصلِ بمقدارِ الحاجةِ، واللهُ أعلمُ.