المطلب الخامس: أثر الزحام في طوافي القدوم والوداع:
ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ منَ الحنفيةِ ينظر: بدائع الصنائع (2/ 142، 146)، تبيين الحقائق (2/ 19، 60 )، المسالك في المناسك (1/420، 431). والشافعيةِ ينظر: المجموع شرح المهذب ( 8/15-16)، مغني المحتاج (2/ 240، 281 )، تحفة المحتاج (4/68، 141). والحنابلةِ ينظر: شرح العمدة في بيان المناسك (2/653)، كشاف القناع (2/541)، مطالب أولي النهى (2/ 430). وغيرِهِم ينظر: بداية المجتهد (1/251)، الاستذكار لابن عبد البر (4/194)، هداية السالك لابن جماعة (3/909-911)، طرح التثريب (5/127-128)، نيل الأوطار (5/ 110). إلى أنَّ طوافَ القدومِ سنةٌ، وأنَّ طوافَ الوداعِ واجبٌ، وخالفَ في ذلك المالكيةُ ينظر: مواهب الجليل 3/82، منح الجليل (2/396)، حاشية دسوقي (2/ 33)، شرح الخرشي لمختصر خليل (2/317، 342).، فقالوا بوجوبِ طوافِ القدومِ، وسنيةِ طوافِ الوداعِ، وهو أحدُ القولينِ عندَ الشافعيةِ ينظر: المجموع شرح المهذب (8/15- 16)، مغني المحتاج (2/240، 281)، تحفة المحتاج (4/68، 141)..
وقد حكى غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ الإجماعَ على مشروعيِةِ طوافَيِ القدومِ والوداعِ ينظر: التمهيد لابن عبد البر (17/269)..
والأصلُ في مشروعيِةِ طوافِ القدومِ ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ من طريقِ عروةَ بنِ الزبيرِ، قالَ: أخبرتني عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: أنَّ أولَ شيءٍ بدأَ به حينَ قدمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- أي في حجةِ الوداعِ- أنه توضأَ، ثم طافَ"صحيح البخاري"(1615)، ومسلم (1235)..
وأمَّا الأصلُ في مشروعيةِ طوافِ الوداعِ: فما رواه البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ ابنِ طاوسٍ، عن أبيهِ، عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: أُمِرَ الناسُ أن يكونَ آخرُ عهدِهِم بالبيتِ، إلَّا أنه خُفِّفَ عنِ الحائضِ"صحيح البخاري"(1755)، ومسلم (1328).، وفي روايةِ مسلمٍ من طريقِ طاوسٍ، عنِ ابنِ عباسٍ قالَ: كانَ الناسُ ينصرفونَ في كلِّ وجهٍ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ»"صحيح مسلم"(1327)..
وقد ذهبَ عامةُ أهلِ العلمِ إلى أنَّ الحائضَ يسقطُ عنها طوافُ الوداعِ"التمهيد "لابن عبد البر (17/265)، "المجموع شرح المهذب" (8/272). كما أفادَهُ حديثُ ابنِ عباسٍ المتقدمِ، ويدلُّ له أيضًا ما في البخاريِّ ومسلمٍ، من طريقِ القاسمِ، عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها: أنَّ صفيةَ بنتَ حُيَيٍّ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاضتْ، فذكرتْ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» قالوا: إنها قد أفاضتْ. قال: «فَلَا إذًا»"صحيح البخاري" (1757)، ومسلم (1211)..
وهذا يُعدُّ أصلًا في سقوطِ طوافِ الوداعِ للعذرِ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أسقطَ الطوافَ عنِ الحائضِ؛ لأجلِ مظنةِ مشقةٍ وضررٍ بانتظارِ انقطاعِ الحيضِ ، فأسقطَهُ دفعًا لهذا الضررِ ولم يوجبْ في ذلك فديةً.
وقد وسَّعَ فقهاءُ الحنفيةِ هذا، فجعلوه أصلًا فلم يوجبوا الفديةَ في كلِّ نسكٍ جازَ تركُهُ لعذرٍ، قالَ الكاسانيُّ: ((وهذا أصلٌ عندنا في كلِّ نسكٍ جازَ تركُهُ لعذرٍ، أنه لا يجبُ بتركِهِ منَ المعذورِ كفارةٌ)) "بدائع الصنائع" (2/142).، وألحقَ فقهاءُ الشافعيةِ بالحائضِ الخائفَ من ظالمٍ أو فوتِ رفقةٍ أو غريمٍ, وهو مُعسرٌ ونحوَ ذلك ينظر: "تحفة المحتاج" (4/143)، "أسنى المطالب" (1/500)، "نهاية المحتاج" (3/317).، فقالوا بسقوطِ طوافِ الوداعِ عنهم، وقالَ آخرونَ بعدمِ إلحاقِ المعذورِ لخوفِ ظالمٍ أو فوتِ رفقةٍ بالحائضِ، وأوجبوا عليه الدمَ، وبهذا قالَ فقهاءُ الحنابلةِ، سواءٌ تركَهُ عمدًا أو خطأً أو نسيانًا، لعذرٍ أو غيرِهِ؛ قالوا: لأنه من واجباتِ الحجِّ، فاستوى عمدُهُ وخطؤُهُ والمعذورُ وغيرُهُ كشاف القناع (7/309)، مطالب أولي النهى(6/362).
والذي يظهرُ لي أنَّ ما ذهبَ إليه الحنفيةُ والشافعيةُ أسعدُ بالدليلِ، وأقربُ إلى الصوابِ؛ فإنَّ جميعَ الواجباتِ منوطةٌ بالاستطاعةِ، كما دلَّتِ عليه النصوصُ قالَ تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: من الآية 16)، وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ؛ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» "صحيح البخاري" (7288)، ومسلم (1337).. رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
وعلى هذا، فإنَّ كلَّ من تركَ طوافَ الوداعِ لعذرٍ يمنعُهُ منه، فإنه لا شيءَ عليه. فمن عجزَ عن طوافِ الوداعِ خشيةَ التضرُّرِ بالزحامِ، إمَّا لمرضٍ أو كبرٍ أو صغرٍ أو خشيةِ فواتِ رحلةٍ أو ذهابِ رفقةٍ أو خوفِ ضياعٍ ونحوِ ذلك منَ الأعذارِ، ولم يتمكنْ منِ انتظارِ زوالِ الزحامِ، فإنه لاحرجَ عليه في تركِ طوافِ الوداعِ، ولا يجبُ عليه شيءٌ لذلك، واللهُ أعلمُ.
وأمَّا طوافُ القدومِ، فالجمهورُ على أنه سنةٌ، لا شيءَ على مَن تركَهُ، وعلى هذا فإن كانَ يخشى حصولَ الأذى بالزحامِ فإنه لا حرجَ في تركِهِ، بل حتى على قولِ المالكيةِ بوجوبِ طوافِ القدومِ فإنهم قد قالوا بسقوطِهِ في حقِّ الحائضِ والنفساءِ ونحوِهما من أهلِ الأعذارِ، كالمغمى عليه والناسي"حاشية الدسوقي" (2/34)، "شرح الخرشي" (2/317)..