المطلب الثالث: أثر الزحام في مكان الطواف:
مما اتفقَ عليه أهلُ العلمِ أنَّ مَن طافَ بالبيتِ، وهو داخلَ المسجدِ، سواءٌ أقرُبَ منَ الكعبةِ أو تباعدَ، وسواءٌ أكانَ بينهُ وبينَ البيتِ حائلٌ أم لا صحَّ طوافُهُ. كما أجمعوا على أنَّ من طافَ خارجًا منَ المسجدِ لم يجزئْه"الإجماع" لابن المنذر ص:(62)، "مراتب الإحماع" ص: (50)، الإقناع في مسائل الإجماع (1/270).، ولا فرقَ في ذلك بين المسجدِ الذي كانَ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين ما طرأَ عليه من زيادةٍ وتوسعةٍ، فإنَّ أهلَ العلمِ متَّفقونَ على أنَّ ما زِيدَ على المسجدِ الحرامِ فله حكمُهُ. قالَ ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ: "ولا خلافَ بين أحدٍ منَ الأمةِ، في أنه لو زِيدَ في المسجدِ أبدًا حتى يعمَّ به جميعَ الحرمِ، يُسمَّى مسجدًا حرامًا""المحلى" (7/ 148)، وينظر: "حاشية ابن عابدين" (1/659)، و"فتح الباري" (3 / 67)..
وقد نصَّ الفقهاءُ، على أنه إذا اتسعَ المطافُ صحَّ الطوافُ في جميعِهِ، قالَ النوويُّ رحمهُ اللهُ: ((لو وُسِّعَ المسجدُ اتَّسعَ المطافُ)) "روضة الطالبين" (3/81).، وقالَ أيضًا: ((اتفقَ أصحابُنا، على أنه لو وُسِّع المسجدُ اتسعَ المطافُ، وصحَّ الطوافُ في جميعِهِ، وهو اليوم أوسعُ مما كانَ في زمانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بزياداتٍ كثيرةٍ زِيدَتْ فيه)) "المجموع شرح المهذب" (8/ 43).، ولا خلافَ بين أهلِ العلمِ، في أنه يُسنُّ للطائفِ القربُ منَ البيتِ"المجموع شرح المهذب" (8/ 52)، "موسوعة الإجماع" (2/ 723).؛ لقولِ اللهِ تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج: من الآية29). فالباءُ في الآيةِ للإلصاقِ والإلزاقِ النكت والعيون للماوردي (1/42)، شرح ابن بطال على البخاري (1/284)، المقدمات والممهدات (1/77)، الحاوي الكبير (1/115).، وهذا يدلُّ على مشروعيةِ الدُّنوِّ منَ البيتِ كما أنَّ الطوافَ عبادةٌ تتعلقُ بالبيتِ، وهو أخصُّ العباداتِ تعلُّقًا بالبيتِ، ولذلك لما أمرَ اللهُ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلامُ بتطهيرِ بيتِهِ، ذَكَرَ الطائفينَ في أولِ مَنْ ذكرَ منْ أصنافِ العبادِ الذين يُطهَّرُ البيتُ لأجلِهم، فقالَ اللهُ تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ البقرة:125، وقالَ تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الحج: 26، وقد دلتِ السنةُ على أنَّ الطوافَ بعيدًا عنِ البيتِ مشروعٌ للعذرِ.
فقد روَى البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ عُرْوَةَ بنِ الزبيرِ، عن زينبَ بنتِ أبي سلمةَ، عن أمِّ سلمةَ، قالت: شكوتُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. قالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ»، فطفتُ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنبِ البيتِ يقرأُ بالطورِ وكتابٍ مسطورٍ"صحيح البخاري" (464)، ومسلم (1276).. فأمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمةَ أن تطوفَ من وراءِ الناسِ يدلُّ على جوازِ البعدِ عنِ البيتِ في الطوافِ للحاجةِ، وشدةُ التزاحمِ وخوفُ التضررِ به حاجةٌ، قالَ الباجيُّ: "من طافَ غيرُه منَ الرجالِ على بعيرٍ، فيُستحبُّ له إن خافَ أن يؤذيَ أحدًا أن يبعدَ قليلًا، وإن لم يكنْ حولَ البيتِ زحامٌ وأمِنَ أن يؤذيَ أحدًا؛ فلْيقربْ كما فعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم " ينظر: "المنتقى شرح الموطأ "(2/295 )..
وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في صحةِ الطوافِ على سطحِ المسجدِ، فنصَّ فقهاءُ المالكيةِ ينظر: "مواهب الجليل" ( 3/ 76). والشافعيةِ ينظر: "المجموع شرح المهذب" ( 8/ 54 ). والحنابلةِ ينظر: "كشاف القناع" ( 2/ 487). على صحةِ الطوافِ على سطحِ المسجدِ؛ لأنَّ سطحَ المسجدِ منه، وهذا القولُ هو مقتضَى قولِ الحنفيةِ، حيثُ قالوا بجوازِ ائتمامِ مَن على سطحِ المسجدِ بمَن في جوفِهِ، قالَ الكاسانيُّ في تعليلِ ذلك: "لأنَّ سطحَ المسجدِ تبعٌ للمسجدِ، وحكمُ التبعِ حكمُ الأصلِ، فكأنه في جوفِ المسجدِ""بدائع الصنائع" (1/145- 146)..
وما تقدمَ تقريرُهُ من صحةِ الطوافِ داخلَ المسجدِ سواءٌ قَرُبَ منَ الكعبةِ أم تباعدَ، سواءٌ كانَ بينه وبينَ البيتِ حائلٌ أم لم يكنْ، يشملُ ما لوِ اجتازَ الطائفُ المَسعَى حالَ طوافِهِ، بسببِ الزحامِ كما يجري منَ الطائفينَ في سطحِ المسجدِ أيامَ المواسمِ، وهذا واضحٌ فيما إذا قيلَ: إنَّ المسعى داخلَ المسجدِ في بنائِهِ الحالي، أمَّا على القولِ بأنَّ المسعى خارجَ المسجدِ، فالظاهرُ صحةُ الطوافِ أيضًا، والعلَّةُ أنَّ الزحامَ يُصيِّرُ الجميعَ متصلًا بالبيتِ.
وقد علَّلَ فقهاءُ المالكيةِ جوازَ الطوافِ تحتَ السقائفِ بالزحمةِ، معَ أنهم يرونَ عدمَ جوازِ الطوافِ تحتَ السقائفِ ينظر: "حاشية دسوقي"(2/33)، "شرح الخرشي على مختصر خليل" (2/316 )، "مواهب الجليل" (3/80-82)، وقد ذهبَ بعضُ المالكيةِ إلى عدمِ الجوازِ ولو لزحامٍ، قالَ في "مواهبِ الجليلِ" ( 3/80 ): "قالَ أشهبُ: لا يصحُّ الطوافُ في السقائفِ ولو لزحامٍ، وهو كالطوافِ من خارجِ المسجدِ".، وهي محلٌّ كانَ فيه قبابٌ معقودةٌ ينظر: "حاشية دسوقي" (2/33). يستظلُّ بها المصلونَ، قالَ القرافيُّ في وجهِ جوازِ ذلك: "اتصالُ الزحامِ يُصيِّرُ الجميعَ متصلًا بالبيتِ""الذخيرة" (3/241).، وقد ذكرَ فقهاءُ الشافعيةِ أنه لو وُسِّعَ المسجدُ حتى انتهى إلى الحِلِّ وطافَ في الحرمِ صحَّ طوافُهُ ينظر: "تحفة المحتاج" (4/82)، "مغني المحتاج" (2/246)..
وقد ذكرَ ابنُ عقيلٍ من فقهاءِ الحنابلةِ، أنه إن تباعدَ الطائفُ عنِ البيتِ من غيرِ عذرٍ، لم يمنعِ الإجزاءَ؛ لأنَّ هذه عبادةٌ تتعلقُ بالبيتِ فلا يؤثرُ في إبطالِها البعدُ معَ مسامتَتِهِ ومحاذاتِهِ كالصلاةِ، وظاهرُ هذا أنه فيما إذا كانَ الطائفُ داخلَ المسجدِ وكذا خارجَهُ إذا كان ثمَّةَ حاجةٌ، ولذا قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ بعدَ نقلِ كلامِ ابنِ عقيلٍ: ((وإنْ طافَ حولَ المسجدِ، أو حولَ البيتِ، وبينه وبين البيتِ جدارٌ آخرُ، احتُمِلَ أن لا يجزئَهُ، لأنه لا يُسمَّى طائفًا بالبيتِ، بل بالمسجدِ أوِ الجدارِ الذي هو حائلٌ)) "شرح العمدة في بيان المناسك" (1/ 599)..
ومما يؤيدُ القولَ بصحةِ الطوافِ بالبيتِ خارجَ المسجدِ بسببِ الزحامِ القياسُ على صحةِ الصلاةِ خارجَ المسجدِ، إذا اتصلتِ الصفوفُ، حيثُ عُلِّلَ بأنَّ اتصالَ الصفوفِ يصيِّرُ الموضعَ الذي امتدتْ إليه الصفوفُ كالمسجدِ في حكمِ الاقتداءِ بالإمامِ ينظر: "المبسوط" (2/35) .، وكذلك هنا، واللهُ أعلمُ.