المطلب الأول: أثر الزحام في صفة الطواف:
اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ المشروعَ للطائفِ أن يجعلَ البيتَ عن يسارِهِ ينظر: الاستذكار (2/ 191).، وقد دلَّ على هذا أحاديثُ كثيرةٌ؛ منها ما رواهُ النسائيُّ"سنن النسائي"(2939). من طريقِ جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ قالَ: لما قدمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مكةَ، دخلَ المسجدَ فاستلمَ الحجرَ، ثم مضى على يمينِهِ فرملَ ثلاثًا ومشى أربعًا.
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ- في صفةِ الطَّوافِ-: "ثم أخذَ في طوافِهِ، يمضي على يمينِهِ، ويكونُ البيتُ عن يسارِهِ، متوجِّهًا ما يلي البابَ بابَ الكعبةِ إلى الركنِ الذي لا يُستلمُ، ثم الذي يليه مثلُهُ، إلى الركنِ الثالثِ وهو اليمانيُّ الذي يلي الأسودَ من جهةِ اليمينِ، ثم إلى الحجرِ الأسودِ، يفعلُ ذلك ثلاثةَ أشواطٍ يرمُلُ فيها، ثم أربعةَ لا يرملُ فيها، وهذا كلُّه إجماعٌ منَ العلماءِ" التمهيد ( 2/68-69) وينظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص: (44)..
وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في بيانِ صفةِ الطوافِ بالبيتِ: "وجملةُ ذلك أنَّ الطائفَ يبتديءُ في مرورِهِ بوجهِ الكعبةِ، فإذا استلمَ الحجرَ الأسودَ أخذَ إلى جهةِ يمينِهِ، فيصيرُ البيتُ عن يسارِهِ، ويكملُ سبعةَ أطوافٍ، وهذا منَ العلمِ العامِّ والسنةِ المتواترةِ الذي تلقتْهُ الأمةُ عن نبيِّها وتوارثتْهُ فيما بينها، خلفًا عن سلفٍ""شرح العمدة في بيان المناسك" ( 3/ 439)..
وقد ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ منَ المالكيةِ ينظر: "مواهب الجليل" ( 3/69)، "منح الجليل "(2/244). والشافعيةِ ينظر:" المجموع شرح المهذب" (8/40)، " تحفة المحتاج "(4/76-77).
والحنابلةِ ينظر: "الإنصاف" (4/7)، "كشاف القناع" (2/482).
إلى أنه لو جَعلَ البيتَ عن يمينِهِ، أو أنه طافَ ووجهُهُ أو ظهرُهُ إلى البيتِ، لم يصحَّ طوافُهُ، فجعْلُ البيتِ عن يسارِ الطائفِ شرطٌ في صحتِهِ, خلافًا للحنفيةِ فقد جعلوهُ واجبًا إذا لم يمكنْ تداركُهُ فإنه يُجبرُ بدمٍ، فقالوا بأنه إذا طافَ منكَّسًا، أو طافَ القَهْقَرَى، فإنه يجبُ عليه إعادةُ الطوافِ ما دامَ في مكةَ، فإن رجعَ إلى بلدِهِ اعتُدَّ بهذا الطوافِ ووجبَ عليه دمٌ، لتركِهِ الصفةَ الواجبةَ في الطوافِ ينظر: المبسوط ( 4/44)، بدائع الصنائع ( 2/130- 131)..
وقدِ اختلفَ الفقهاءُ القائلونَ بوجوبِ كونِ البيتِ عن يسارِ الطائفِ فيما إذا أخلَّ بذلك في أثناءِ طوافِهِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: وجوبُ ملازمةِ الطائفِ هذه الصفةَ في جميعِ الطوافِ، فلو أخلَّ به في خطوةٍ وجبَ عليه العودُ ليأتيَ به على الصفةِ الواجبةِ، ولو كانَ ذلك الإخلالُ لعذرٍ من زحامٍ ونحوِهِ. قالَ النوويُّ في "المجموعِ": "فلو خالفَ فجعلَ البيتَ عن يمينِهِ، ومرَّ منَ الحجرِ الأسودِ إلى الركنِ اليمانيِّ، لم يصحَّ طوافُهُ بلا خلافٍ عندنا، ولو لم يجعلْ البيتَ على يمينِهِ ولا يسارِهِ، بل استقبلَهُ بوجهِهِ معترضًا وطافَ كذلك، أو جعلَ البيتَ على يمينِهِ ومشى قَهْقَرَى إلى جهةِ البابِ، ففي صحَّةِ طوافِهِ وجهانِ حكاهما الرافعيُّ، قالَ الرافعيُّ: أصحُّهما لا يصحُّ، قالَ: وهو الموافقُ لعبارةِ الأكثرينَ، وجزمَ البغويُّ والمتولي في صورةِ من جعلَ البيتَ عن يمينِهِ ومشى قَهْقَرَى بأنه يصحُّ لكن يُكرهُ، والأصحُّ البطلانُ""المجموع شرح المهذب"( 8/ 35).، وقالَ في "أسنى المطالبِ": "وإذا استقبلَ البيتَ لدعاءٍ أوْ زحمةٍ أو غيرِهما، فليحترزْ عنِ المرورِ في الطوافِ، ولو أدنى جزءٍ قبلَ عودِهِ إلى جعلِ البيتِ عن يسارِهِ، ويطوفُ بالبيتِ أمامَهُ جاعلًا له عن يسارِهِ للاتِّباعِ""أسنى المطالب"(1/ 477)..
القولُ الثاني: إخلالُ الطائفِ بهذه الصفةِ في بعضِ طوافِهِ، بأنِ استقبلَ البيتَ أوْ جعلَهُ عن يمينِهِ بسببِ الزحامِ أوِ التدافعِ لا يُفسدُ طوافَهُ بل هو صحيحٌ، وهو أحدُ الوجهينِ عند الشافعيةِ.
وهذا قولٌ قويٌّ جدًّا، لاسيَّما وأنَّ زحامَ الناسِ في أيامِ الحجِّ ونحوِها منَ المواسمِ، قد لا يملكُ الطائفُ جعلَ البيتِ عن يسارِهِ في جميعِ الطوافِ، بل ربما يُطافُ به وتُسيِّرُهُ أمواجُ الناسِ، فالقولُ بعدمِ صحةِ الطوافِ إذا اختلَّتْ هذه الصفةُ في بعضِهِ فيه حرجٌ ومشقةٌ تأباه أصولُ الشريعةِ وقواعدُها، فإنَّ إلزامَ الطائفِ بإعادةِ ما طافَهُ، يترتبُ عليه أذًى وتأذٍ بالغانِ، فالطائفُ قد لا يَسلمُ ولا يُسلَمُ منه، مع كونِهِ موافقًا لسيرِ الناسِ، فكيف إذا كانَ في مواجهةِ أمواجِ الناسِ؟! وحتى لو قيلَ: بوجوبِ إعادةِ الشوطِ فيما إذا أخلَّ بصفةِ الطوافِ فلم يجعلْ البيتَ عن يسارِهِ في بعضِ طوافِهِ بسببِ الزحامِ، فإنه لا يأمنُ غالبًا من تكرارِ الإخلالِ بذلك.
ومما يشهدُ لعدمِ وجوبِ إعادةِ الطوافِ فيما لو لم يجعلْ البيتَ عن يسارِهِ في بعضِ طوافِهِ بسببِ الزحامِ أنَّ الحاجةَ داعيةٌ إلى بيانِ مثلِ هذا لقيامِ مُوجبِهِ من زحامٍ أوْ طوافٍ راكبًا، فقد طافَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وبعضُ أصحابِهِ راكبًا، ومعلومٌ أنَّ الراكبَ قد تميلُ بِهِ دابتُه فيكونُ مستقبلًا البيتَ في بعضِ طوافِهِ، أوْ مستدبرًا، أوْ منحرفًا عنْ أن يكونَ البيتُ عن يسارِهِ، ومع ذلك لم يأتِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عنْ أحدٍ من أصحابِهِ شيءٌ يُستَمْسَكُ به في إلزامِ الناسِ بوجوبِ إعادةِ خطواتٍ أوْ شوطٍ لأجلِ فواتِ كونِ البيتِ عن يسارِهِ في بعضِ طوافِهِ، ولو كانَ ذلك واجبًا لبيَّنهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولنُقِلَ إلينا، واللهُ أعلمُ.