المطلب الأول: أثر الزحام في وجوب النسك:
فرضَ اللهُ تعالى الحجَّ على عبادِهِ، وجعلَ شرطَ الوجوبِ الاستطاعةَ، فقالَ تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ آل عمران: من الآية97، وفي" صحيحِ مسلمٍ" من حديثِ كهمسِ بنِ الحسنِ، عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عن يحيى بنِ يعمرَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن عمرَ رضي الله عنه في سياقِ ذكرِ مجيءِ جبريلَ، وسؤالِهِ عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وفيه قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»"صحيح مسلم"(8)..
وقد أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ من شروطِ وجوبِ الحجِّ الاستطاعةَ" بداية المجتهد" (1/309)، "المجموع شرح المهذب" ( 7/52).، كما أجمعوا أيضًا على أنَّ من أوصافِ الاستطاعةِ المشروطةِ للوجوبِ القدرةَ بالبدنِ ينظر: "التمهيد" (9/127).، وذلك بسلامةِ ((البدنِ عنِ الآفاتِ المانعةِ عنِ القيامِ بما لا بدَّ منهُ في سفرِ الحجِّ)) "بدائع الصنائع" (2/121). وأعمالِهِ، يدلُّ لذلك ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ من طريقِ الزهريِّ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما، قالَ: إنَّ امرأةً من خثعمٍ سألتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالتْ يا رسولَ اللهِ: إنَّ فريضةَ اللهِ على عبادِهِ في الحجِّ، أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يثبُتُ على الراحلةِ، أفأحجُّ عنه؟ قالَ: «نَعَمْ»، وذلك في حجةِ الوداعِ"صحيح البخاري" (1513)، ومسلم (1334).. فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أسقطَ عن هذا الرجلِ وجوبَ الحجِّ ببدنِهِ لوجودِ المانعِ، وهو عدمُ قدرتِهِ على الثباتِ على وسيلةِ نقلِهِ، وهي الراحلةُ حيثُ كانَ كُلَّما وُضِعَ عليها سَقَطَ.
وبناءً على ذلك هل يُمكنُ أن يُقالَ: إنَّ الزحامَ يصلحُ أن يكونَ عذرًا في سقوطِ وجوبِ الحجِّ؟
الظاهرُ أنه من حيثُ الأصلُ لا يصلحُ أن يكونَ الزحامُ عذرًا في سقوطِ الوجوبِ؛ لأنَّ قدرًا منَ الزحامِ لا بدَّ منه في النسكِ كما هو معلومٌ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى الزحامَ وأمرَ بما يخفِّفُ ضررَهُ ويدفعُ مشقَّتَهُ كما تقدمَ في أحاديثِ المبحثِ السابقِ.
لكن لو قُدِّرَ أنَّ شخصًا لا يتمكنُ منَ الحجِّ؛ لكونه مريضًا مرضًا لا يُطيقُ معه الزحامَ الذي لا بدَّ منهُ في مناسكِ الحجِّ وأعمالِهِ، ولا يدفعُ ضررَهُ الأخذُ بالرخصِ المشروعةِ، فإنَّ عدمَ إطاقتِهِ للزحامِ المعتادِ بسببِ مرضِهِ يُعَدُّ عذرًا في سقوطِ فرضِ الحجِّ عنه بنفسِهِ، لفواتِ الاستطاعةِ المشروطةِ لوجوبِ الحجِّ.