المبحث الثالث: اقتضاء الزحام التخفيف في النسك:
رفعُ الحرجِ ونفيُهُ منَ القواعدِ الكبرى التي تُبنَى عليها أحكامُ هذه الشريعةِ المطهرةِ، وقد تضافرتْ الأدلةُ واستفاضتْ النصوصُ في تقريرِ ذلك وبيانِهِ ينظر: "رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" للدكتور الباحسين ص: (61-99)، "مقاصد الشريعة الإسلامية" للدكتور اليوبي ص: (400-407). ؛ فمن ذلك قولُ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج: (78)
ومنهُ قولُهُ تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ المائدة: (6).
فنفى اللهُ عنِ الأمةِ كلَّ حرجٍ، فـ "حرجٍ" نكرةٌ مؤكَّدةٌ بحرفِ "من" التي تفيدُ النفيَ على العمومِ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة: (185)
ومنه قولُهُ جلَّ وعلَا: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النساء: (28).
أمَّا السنةُ النبويةُ فقد جاءتْ أحاديثُ كثيرةٌ في رفعِ الحرجِ ونفيِهِ عنِ الأمةِ؛ فمن ذلك ما رواهُ البخاريُّ من طريقِ سعيدِ بنِ أبي سعيدٍ المَقْبُريِّ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»"صحيح البخاري" (39)..
فهذه الأدلةُ منَ الكتابِ والسنةِ تدلُّ على نفيِ الحرجِ وإثباتِ التوسعةِ، وهذا الأصلُ ينتظمُ أحكامَ الشريعةِ كلَّها، سواءٌ منها العباديةُ أمِ المعاملاتيةُ.
وممَّا يندرجُ في ذلك رفعُ الحرجِ ونفيُهُ في الحجِّ، الذي هو أحدُ أركانِ الإسلامِ، فقد ذكرَ اللهُ تعالى نفيَ الحرجِ في سورةِ الحجِّ التي تضمَّنتْ ذكرَ شيءٍ من أحكامِهِ، فقالَ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج:(78)، والذي يظهرُ أنَّ مناسبةَ ذكرِ نفيِ الحرجِ في سورةِ الحجِّ، أنَّ في أعمالِ الحجِّ منَ المشقةِ ما ليس في غيرِهِ من أركانِ الإسلامِ، فناسبَ أنْ يُذَكِّرَ بأصلِ رفعِ الحرجِ الذي بُنِيَت عليهِ أحكامُ الشريعةِ؛ ليُعلمَ أنَّ المقصودَ بهذهِ العبادةِ الجليلةِ تعظيمُ اللهِ تعالى، وتعظيمُ ما عظَّمه اللهُ منَ البقاعِ والأزمنةِ، لا مجردَ حصولِ المشقَّةِ، بل إنه إذا ترتَّبَ على الحجِّ مشقَّةٌ خارجةٌ عنِ المعتادِ؛ فإنَّ الشريعةَ المباركةَ قد رتَّبتْ منَ الأحكامِ ما يرفعُ الحرجَ ويزيلُ تلك المشقةَ أو يخفِّفَها.
وقد جاءتِ الشريعةُ برفعِ الحرجِ فيما يتعلقُ بأحكامِ الحجِّ خاصَّةً؛ فمن ذلك: ما يتعلقُ بأصلِ الوجوبِ فقد علَّقَ اللهُ وجوبَ الحجِّ بالاستطاعةِ؛ رفعًا للحرجِ والمشقةِ عنِ المُكلَّفينَ، فقالَ تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران(97).
ومن صورِ رفعِ الحرجِ والضيقِ في الحجِّ: ما دلتْ عليه السنةُ من جوازِ النيابةِ في فرضِ الحجِّ عندَ العجزِ عنه بالبدنِ والتمكنِ بالنائبِ، ففي "الصحيحينِ" من طريقِ الزهريِّ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما: أنَّ امرأةً من خَثْعَمٍ سألتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عبادِهِ في الحجِّ، أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبُتُ على الراحلةِ، أفأحجُّ عنهُ؟ قالَ: «نَعَمْ»، وذلك في حجةِ الوداعِ"صحيح البخاري" (1513)، ومسلم (1334)..
وممَّا جاءتِ الشريعةُ فيه برفعِ الحرجِ في أحكامِ الحجِّ دفعُ الحرجِ الحاصلِ بالازدحامِ وتدافعِ الناسِ في النسكِ عمومًا: وذلكَ أنَّ الزحامَ من مظانِّ حصولِ المشقةِ والحرجِ والضيقِ، بل قد يُفْضِي إلى هلاكِ الأنفسِ وتلفِ الأموالِ، وقد جاءَ ذلك في عدَّةِ أحاديثَ نبويةٍ.
منها ما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، من طريقِ القاسمِ بنِ محمدٍ، عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: "نزلْنا المزدلفةَ فاستأذنتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سودةُ أن تدفعَ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ، وكانتْ امرأةً بطيئةً، فأذنَ لها، فدفعتْ قبلَ حَطْمَةِ الناسِ، وأقمْنا حتى أصبحْنا نحنُ، ثم دفعْنا بدفعِهِ، فلأنْ أكونَ استأذنتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما استأذنتْ سَوْدَةُ أحبُّ إليَّ من مفروحٍ بهِ""صحيح البخاري (1681)، ومسلم (1290).، فأذنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لسودةَ في الدفعِ من مزدلفةَ قبل دفعِهِ؛ لأجلِ حَطْمَةِ الناسِ أي: زحمتِهِم"النهاية في غريب الحديث"، مادة (حطم) (1/402).، وهذا صريحٌ في أنَّ الزحامَ يوجبُ التخفيفَ، سواءٌ قيلَ بأنَّ المبيتَ ركنٌ أو واجبٌ أو سنةٌ.
ومنها ما رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ لا بأسَ به، من طريقِ سليمانَ بنِ عمرو بنِ الأحوصِ، عن أمِّهِ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يرمي الجَمْرَةَ من بطنِ الوادي، وهو راكبٌ يكبِّرُ معَ كلِّ حصاةٍ، ورجلٌ من خلفِهِ يسترُهُ، فسألتُ عنِ الرجلِ، فقالوا: الفضلُ بنُ العباسِ وازدحمَ الناسُ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَإِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الخَذَفِ»"سنن أبي داود" (1966)..
فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أنْ يَقتُلَ الحجاجُ بعضُهم بعضًا بسببِ التزاحمِ عندَ الرميِ، فهذا بيانٌ لخطورةِ الازدحامِ وأنه يستوجبُ المراعاةَ لتجَنُّبِ آثارِهِ الخطيرِةِ.
ومنها ما ثبتَ في "الصحيحينِ"، منْ طرقٍ، عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طافَ في حجَّةِ الوداعِ على بعيرٍ يستلمُ الركنَ بمِحْجَنٍ"صحيح البخاري" (1608)، ومسلم (1272).، فقد جاءَ ما يُشعِرُ بأنَّ طوافَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم راكبًا كانَ دفعًا لتزاحمِ الناسِ عليهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقد تركَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الطوافَ ماشيًا لأجلِ الزحامِ، ففي "صحيحِ مسلمٍ" من طريقِ هشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن عروةَ، عن عائشةَ قالتْ: طافَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ حولَ الكعبةِ على بعيرِهِ، يستلمُ الركنَ؛ كراهيةَ أن يُضرَبَ عنه الناسُ"صحيح مسلم" (1274)..
وكذلك جاءَ في "صحيحِ مسلمٍ" من طريقِ أبي الزبيرِ، عن جابرٍ قالَ: "طافَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالبيتِ في حجةِ الوداعِ على راحلتِهِ، يستلمُ الحجرَ بمِحْجَنِهِ؛ لأنْ يراهُ الناسُ وليُشرفَ وليسألوه، فإنَّ الناسَ غَشُوهُ""صحيح مسلم" (1273)..
وجاءَ في "سننِ أبي داودَ" أيضًا عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، أنه قالَ في بيانِ سببِ ركوبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في طوافِهِ: كانَ الناسُ لا يدفعونَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يُصرفونَ عنهُ، فطافَ على بعيرٍ؛ ليسمعوا كلامَهُ، وليرَوْا مكانَهُ ولا تنالُهُ أيديهم"سنن أبي داود"(1885)..
وهذه الأحاديثُ بمجموعِها تُبيِّنُ أنه إنما ركبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دفعًا لازدحامِ الناسِ عليه لما غشوهُ، معَ أنَّ الأفضلَ في الطوافِ أن يكونَ الطوافُ راجِلًا بلا خلافٍ بينَ أهلِ العلمِ"التمهيد"(2/95، 13/100)، "المجموع شرح المهذب" (3/38)، "المغني" لابن قدامة ( 5/250)، "موسوعة الإجماع" (2/ 723)..
ومما يُستأنسُ به في أنَّ الازدحامَ وتدافُعَ الناسِ في أعمالِ النُّسُكِ منَ الحرجِ الذي دفعتْهُ الشريعةُ ما رواهُ أحمدُ، عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: «يِا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ؛ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ»"مسند أحمد"(191). آفة هذا الحديث إبهام الراوي عن عمر رضي الله عنه، فهو من طريق سفيان، عن أبي يعفور، قال: سمعت شيخًا بمكة في إمارة الحجاج يحدث عن عمر به. قال عنه ابن كثير في كتابه حجة الوداع ص(189): ((وهذا إسناد جيد، لكن راويه عن عمر مُبْهَم لم يُسَمَّ، والظاهر أنه ثقة جليل))، ونُقِلَ عن سفيان تسميته، وأنه عبد الرحمن بن نافع كما نقله الدارقطني في كتاب العلل: ((قال ابن عيينة: ذكروا أن هذا الشيخ هو عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث)).اهـ من نصب الراية (3/139). قال ابن كثير: ((وقد كان عبد الرحمن نبيلًا كبير القدر، وكان أحد النفر الأربعة الذين ندبهم عثمان بن عفان في كتابة المصاحف التي نفذها إلى الآفاق، ووقع على ما فعله الإجماع والاتفاق))..
وفيما يلي من مباحثَ سنتناولُ بيانَ تفصيلِ قاعدةِ رفعِ الحرجِ في مسائلِ الحجِّ.