المسألةُ الخامسةُ: المراثِي:
للعلماءِ رحمهم اللهُ في رثاءِ الأمواتِ قولانِ في الجملةِ:
القولُ الأولُ:
أنهُ لا بأسَ بالمراثِي، وهذا مذهبُ الحنفيةِ حاشية ابن عابدين (2/239).، والشافعيةِ نهاية المحتاج (3/17)..
واستدلَّ هؤلاءِ بأنَّ الكثيرَ منَ الصحابةِ- رضيَ اللهُ عنهم- فَعَلَهُ، وكذلك فعلَهُ كثيرٌ من أهلِ العلمِ شرح المنهاج للجمل (2/215)..
القولُ الثاني:
أنهُ تُكرَهُ المراثِي، وهو قولٌ للشافعيةِ نهاية المحتاج (3/17)..
واستدلَّ هؤلاءِ بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عنِ المراثِي، فعن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى- رضي الله عنه- قالَ: "نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِ المراثِي". رواهُ الإمامُ أحمدُ(18351).، وابنُ ماجه(1581).. وهوَ عندَ ابنِ أبي شيبةَ بلفظ: "ينهانا عن المراثِي"(3/266)..
ومدارُ الحديثِ على إبراهيمَ الهَجَريِّ الراوي عن عبدِ اللهِ، قالَ عنهُ البوصيريُّ في مصباحِ الزجاجةِ: وهو ضعيفٌ جدًّا، ضعفَهُ سفيانُ بنُ عيينةَ، ويحيى بنُ معينٍ، والنسائيُّ، وغيرُهُم(2/48).. وقالَ عنهُ البخاريُّ: منكَرُ الحديثِ.
قالوا:" والأولى الاستغفارُ لهُ، ويظهرُ حملُ النهيِ عن ذلك على ما يظهرُ فيهِ تبرُّمٌ، أو على فعلِهِ معَ الاجتماعِ لهُ، أو على الإكثارِ منهُ، أو على ما يجدِّدُ الأحزانَ، دونَ ما عدا ذلك، فإنَّ الكثيرَ منَ الصحابةِ، وغيرِهِم منَ العلماءِ يفعلونَهُ" نهاية المحتاج (3/17)..
وقد قسَّمَ القرافيُّ المراثِيَ إلى أربعةِ أقسامٍ باعتبارِ حكمِهِ الفروق (2/173 - 174، 181 – 182).:
"الأولُ: المراثِي المباحةُ، وهي الخاليةُ عنِ التحريمِ؛ من ضجرٍ، أو تسخُّطٍ، أو تسفيهٍ للقضاءِ، وما أشبهَ ذلك.
الثاني: المراثِي المندوبةُ، وهي ما كانَ مُسهِّلًا للمصيبةِ، مُذهِبًا للحزنِ، مُحسِّنًا لتصرفِ القضاءِ، مُثنِيًا على الربِ تعالى.
الثالثُ: المراثِي المحرمةُ الكبيرةُ، وهي ما كانَ فيهِ اعتراضٌ على القضاءِ، وتعظيمٌ لشأنِ الميتِ، وأنَّ موتَهُ خلافُ الحكمةِ والمصلحةِ، وما أشبهَ ذلك.
الرابعُ: المراثِي المحرمةُ الصغيرةُ، وهي ما كانَ مُبعِدًا للسَّلْوةِ عن أهلِ الميتِ، مُهَيِّجًا للأسفِ مُعَذِّبًا للنفوسِ".
وهذا تفصيلٌ حسنٌ؛ فيُحمَلُ ما جاءَ منَ النهيِ عنِ المراثِي على القولِ بثبوتِهِ على القسمينِ الثالثِ والرابعِ، قالَ ابنُ حجرٍ عندما ذكرَ رثاءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعدِ بنِ خولةَ رضي الله عنه : "وليسَ معارضًا لنهيِهِ عنِ المراثِي التي هي ذكرُ أوصافِ الميتِ الباعثةِ على تهييجِ الحزنِ وتجديدِ اللوعةِ، وهذا هو المرادُ بما أخرجهُ أحمدُ، وابنُ ماجه، وصححَهُ الحاكمُ، من حديثِ عبدِ اللهِ بن أبي أوفى رضي الله عنه قالَ: "نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِ المراثِي"، وهو عندَ ابنِ أبي شيبةَ بلفظِ: "نهانا أن نتراثَى"، ولا شكَّ أنَّ الجامعَ بين الأمرينِ التوجُّعُ والتحزُّنُ" ينظر: فتح الباري (3/164-165).، واللهُ أعلمُ.