المبحث الثاني: الزحام وصلته بالنسك قديمًا وحديثًا:
الظاهرُ أنَّ الزحامَ سمةٌ مرتبطةٌ بمكةَ منذُ القدمِ، حتى قبلَ الإسلامِ، ولعلهُ منذُ أنْ أذَّنَ إبراهيمُ عليه السلام في الناسِ بالحجِّ استجابةً لأمرِ اللهِ تعالى لإبراهيمَ عليه السلام أنْ يُؤَذِّنَ في الناسِ بقصدِ هذا البيتِ المباركِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ سورة الحج:27. فهذا أمرٌ منَ اللهِ تعالى لإبراهيمَ أنْ يعلمَ الناسُ بأنَّ اللهَ يأمرُهُم بحجِّ هذا البيتِ، ووَعْدٌ منه بأنه سيُلَبِّي هذا النداءَ والإعلامَ أناسٌ منْ أقطارِ الدنيا وستتنوعُ وسائلُ وصولِهم إلى ما دُعُوا إليهِ.
ولذلك سمَّاها الله بكَّةَ في سياقِ الآياتِ التي ذكرَ فيها فرضيةَ الحجِّ ووجوبَ قصدِهِ على المستطيعِ، فقالَ جلَّ وعلَا: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ سورة آل عمران: (96 - 97)، وهذا مُشْعِرٌ بأنَّ الزحامَ في هذه البقعةِ هو لأجلِ قصدِ الناسِ هذا المكانَ المباركَ استجابةً للهِ وطاعةً لهُ، ولهذا ذكرَ اللهُ تعالى مكةَ في هذه الآيةِ بالاسمِ الذي يُشعِرُ بكثرةِ منْ يأتي إليها وازدحامِهِم فيها وهو بَكَّةُ.
قالَ الطبريُّ: "بكَّةَ: فَعْلَةَ مِنْ (بَكَّ فلانٌ فلانًا): زحمَهُ، سُمِّيَتْ البقعةُ بفعلِ المزدحمينَ بها"" تفسير الطبري" (4/9 ). ، قالَ قتادةُ: "إنّ الله بكَّ به النَّاسَ جميعًا، فيصلِّي النساءُ أمامَ الرجالِ، ولا يُفعلُ ذلكَ ببلدٍ غيرِها"، وكذا رُوِيَ عن مجاهدٍ، وعكرمةَ، وسعيدِ بنِ جبيرٍ، وغيرِهم "تفسير ابن كثير" (2/78)..
وقدِ ازدحمَ المسلمونَ في حجِّ هذا البيتِ من أولِ حجةٍ حجَّها المسلمونَ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عامَ حجةِ الوداعِ في جمعٍ كبيرٍ منَ المسلمينَ، غيرِ معهودٍ من حالِ الناسِ في ذلك الزمانِ، وصفَ ذلك جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رضي الله عنه فيما رواهُ الإمامُ مسلمٌ "صحيح مسلم" (1218). فقالَ: "إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مكثَ تسعَ سنينَ لم يحجَّ، ثمَّ أُذِّنَ في الناسِ في العاشرةِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حاجٌّ؛ فقدمَ المدينةَ بشرٌ كثيرٌ، كلُّهم يلتمسُ أنْ يأتمَّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويعملَ مثلَ عملِهِ، فصلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ، ثم ركبَ القصواءَ، حتى إذا استوتْ به ناقتُهُ على البيداءِ، نظرتُ إلى مدِّ بصري بينَ يديْهِ من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينِهِ مثلُ ذلك، وعن يسارِهِ مثلُ ذلك، ومن خلفِهِ مثلُ ذلك. فكانَ الذين خرجوا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ جمعًا عظيمًا كثيرًا، وقد قدَّرَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ عددَ مَن حجَّ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقيلَ: خرجَ معهُ تسعونَ ألفًا، وقيلَ: مائةُ ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفًا، وقيلَ: أكثرُ من ذلك كما حكاهُ البيهقيُّ ينظر: سمط النجوم العوالي (2/307)، وهو منقول عن أبي زرعة الرازي، قال النووي في المجموع "شرح المهذّب" (7/473): ((قالَ أبو زرعةَ الرازيُّ فيما رويناهُ عنهُ: حضرَ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حجةَ الوداعَ مائةُ ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفًا، كلُّهم رآهُ وسمعَ منهُ)). ، وكلُّ هذا التقديرِ إحصاءٌ تقريبيٌّ لعددِ مَنْ خرجَ معه منَ المدينةِ، وليسَ ذلك عددَ كلِّ مَنْ حجَّ معهُ؛ إذ منَ المعلومِ أنَّ مَنْ شهِدوا حجةَ الوداعِ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم جاءوا من جهاتٍ عديدةٍ، وإنما وصفَ جابرٌ مَنْ كانوا معهُ في ذي الحليفةِ (ميقاتِ أهلِ المدينةِ) واللهُ أعلمُ.
ومهما يكنْ فإنَّ ذلك العددَ الذي كانَ في حجةِ الوداعِ يُعدُّ استثناءً عما كانَ عليه أعدادُ الحجاجِ في ذلك الزمانِ، فتلك السَنَةُ جمَعَتْ منَ الخلقِ ما لم يجتمعْ قبلَها مثلُها، كما قالَ النوويُّ" المجموع شرح المهذب" (7/153).، وذلك حرصًا منْ أهلِ الإسلامِ على الائتمامِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والاقتداءِ بِهِ، والأخذِ عنهُ، كما قالَ جابرٌ رضي الله عنه: ثم أُذِّنَ في الناسِ في العاشرةِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدِمَ المدينةَ بشرٌ كثيرٌ كلُّهم يلتمسُ أنْ يأتمَّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ويعملَ مثلَ عملِهِ. فإنَّ هذا يُشيرُ إلى سببِ كثرةِ الحجيجِ تلكَ السَّنَةَ. ومما يظهرُ به أنَّ الجمعَ الذين حَجُّوا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ عددٌ غيرُ معهودٍ عندَ العربِ.
ويمكنُ أنْ يُستفادَ ذلك أيضًا من أنَّ أبا سفيانَ لمَّا رأى معسكرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الفتحِ، قالَ: ((ما هذه؟! لكأنَّها نيرانُ عرفةَ!)) "صحيح البخاري"(4280). ، وكانوا عشرةَ آلافٍ مقاتلٍ، وهذا عُشْرُ عددِ مَنْ حجَّ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقريبًا.
أمَّا بعدَ حجةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلم أقفْ على بيانٍ يُفصِّلُ أعدادَ الحجاجِ.
وقدِ اجتهدتُ في معرفةِ نِسَبِ الحجيجِ بعد ذلك، ولو وصفيًّا فلم أظفرْ من ذلك بشيءٍ ذي بالٍ، وأولُ إحصاءٍ وقفتُ عليه ما نشرتْهُ مجلةُ المنارِ في عددِها التاسعِ لشهرِ ذي الحجةِ عامَ 1315هـ، وقد وُصِفَ بأنهُ "أضبطُ إحصاءٍ حصلَ للحجاجِ: بلغَ عـددُ الحجاجِ الذين غادروا مِنى بعد التضحيةِ مائتي ألفِ نفسٍ""مجلة المنار" (1/9/163).، وقد ذكرتِ المجلةُ أيضًا في عددِ شهرِ ذي القعدةِ عامَ 1316هـ عددَ الحجاجِ الذين قصدوا الحجازَ عن طريقِ الإسكندريةِ"مجلة المنار" (2/3/48).، وهذا نوعُ إحصاءٍ؛ لأنه ذكرٌ لأعدادِ الحجاجِ من جهاتٍ معينةٍ، ومثلُهُ ما ذكرَهُ صاحبُ مرآةِ الحرمينِ عن تعدادِ الحجاجِ المصريِّينَ عامَ 1318هـ"مرآة الحرمين"(1/185)..
ولقد كانَ أولُ إحصاءٍ عامٍّ يُنشَرُ لعددِ الحجاجِ ما نشرتْهُ جريدةُ البلادِ الصادرةِ بمكةَ، وذلك في عامِ 1372هـ، فقد ذكرَتْ إحصاءً لعددِ الحجاجِ الوافدينَ من خارجِ البلادِ السعوديةِ ابتداءً من عامِ 1342هـ إلى عامِ 1372هـ" التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم" للكردي (2/187-188)..
ثم بعدَ ذلك أصبحَ تعدادُ الحجاجِ وإحصاؤُهم عملًا معتادًا، يُعلنُ عنه سنويًّا في الصحفِ والجرائدِ وغيرِها، والذي لا يخطئُه النظرُ في النسبِ والإحصاءاتِ أنَّ أعدادَ الحجيجِ في زيادةٍ مطَّردةٍ، وهذهِ الزيادةُ سببٌ رئيسٌ للازدحامِ الذي يؤثرُ على أعمالِ الحجِّ تأثيرًا بينًا.