بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِّ، ليظهرَهُ على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المشركونَ، أحمدُهُ جلَّ في علاهُ، لا أُحصي ثناءً عليهِ كما أثنى على نفسِهِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ وصفوتُهُ منْ خلقِهِ وخِيرتُهُ من عبادِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ.
أمَّا بعدُ:
فمنذُ أنْ بعثَ اللهُ تعالى خاتمَ أنبيائِهِ رسولَنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذا الدينِ القويمِ والنورِ المبينِ، وأهلُ الإسلامِ لم يزالوا في ازديادٍ حتى طبقَ أهلُ الإسلامِ الخافقينِ، وقد ترافقَ معَ هذهِ الزيادةِ في أعدادِ المسلمينَ زيادةُ أعدادِ مَن يقصدونَ البيتَ الحرامَ منَ الحُجَّاجِ والعمَّارِ، لا سيَّما في هذا العصرِ الذي توافرَتْ فيه وسائلُ النقلِ سهولةً وسرعةً وأمنًا، كما توافرَتْ سبلُ الراحةِ منْ كلِّ وجهٍ.
وقد نتجَ عن هذا التوافدِ الكثيرِ زحامٌ في كثيرٍ من أعمالِ الحجِّ والعمرةِ ومناسكِهما، مما جعلَ الحاجةَ قائمةً إنْ لم تكنْ ماسَّةً لمعرفةِ أثرِ الزحامِ في أحكامِ النسكِ "الحجِّ والعمرةِ"، وما ذكرَهُ العلماءُ في ذلك. فاستعنْتُ اللهَ تعالى في بحثِ هذا الموضوعِ وجمعِ أطرافِهِ ولمِّ شَعَثِ مسائلِهِ، وقد سميتُهُ "الزحامُ وأثرُهُ في أحكامِ النسكِ (الحجِّ والعمرةِ)".
ولقد كانَ من دواعي هذه الدراسةِ ما يلي:
أولًا: مسيسُ الحاجةِ إلى بحثِ المسائلِ الشرعيةِ المتعلِّقةِ بأثرِ الزحامِ في أحكامِ الحجِّ والعمرةِ، حيثُ إنهُ قد نشأ عنِ الزحامِ وكثرةِ أعدادِ الحُجَّاجِ والعُمَّارِ في الأعوامِ المتأخرةِ مضارٌّ كثيرةٌ من ذهابِ الأنفسِ، أوِ الإصاباتِ فيما دونَ النفسِ، أوِ العناءِ والمشقةِ التي تلحقُ الأقوياءَ والأشداءَ، فضلًا عنِ الضعفاءِ والنساءِ.
ثانيًا: أنَّ شدةَ الزحامِ سببٌ رئيسٌ لزوالِ المقصودِ الأعظمِ منْ هذه العباداتِ، منَ الخشوعِ والخضوعِ وذكرِ اللهِ تعالى، وغيرِ ذلك، حيثُ أصبحَ همُّ أكثرِ الحجاجِ والعمارِ التخلصَ من شدةِ الزحامِ والنجاءِ بأنفسِهم منَ مضارِّهِ، ففي بيانِ أحكامِ الزحامِ تبصيرٌ بما يمكنُ أن يُحصِّلَ مقصودَ هذه العبادةِ، مع توقِّي مضارِّ الزحامِ.
ثالثًا: الإسهامُ في جمعِ ما ذكرَهُ أهلُ العلمِ في آثارِ الزحامِ في أحكامِ النسكِ الحجِّ والعمرةِ، لا سيَّما أنني لم أقفْ على بحثِ يجمعُ مسائلَ هذا الموضوعِ ويستوعبُ قضاياهُ، ومنَ الجديرِ بالذكرِ أنَّ هناكَ أبحاثًا مباركةً وإسهاماتٍ نافعةً تناولتْ بعضَ جوانبِ آثارِ الزحامِ في أحكامِ الحجِّ والعمرةِ، ومنْ ذلك بعضُ البحوثِ الشرعيةِ التي تضمنَّتْها ندوةُ مشكلةِ الزحامِ في الحجِّ وحلولِها الشرعيةِ التي عقدتْها الأمانةُ العامةُ للمجمعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ التابعةِ لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ في شهرِ ذي القعدةِ لعامِ 1423هـ، ولا زالَ الموضوعُ بحاجةٍ إلى مزيدِ دراسةٍ وبحثٍ.
رابعًا: بيانُ ما يتصفُ بهِ الفقهُ الإسلاميُّ منَ القوةِ والسعةِ والاستيعابِ لحوائجِ الناسِ، وتقديمِهِ الحلولَ التي تتحققُ بها المصالحُ وتندفعُ بها المضارُّ.
أمَّا الخطةُ التي سرْتُ عليها فهي على النحوِ التالي:
المبحثُ الأولُ: تعريفُ الزحامِ والنسكِ.
المبحثُ الثاني: الزحامُ وصلتُهُ بالنسكِ قديمًا وحديثًا.
المبحثُ الثالثُ: اقتضاءُ الزحامِ التخفيفَ في النسكِ.
المبحثُ الرابعُ: أثرُ الزحامِ في وجوبِ النسكِ والخروجِ منهُ.
المبحثُ الخامسُ: أثرُ الزحامِ في تحديدِ نِسَبِ الحجاجِ وتنظيمِ حجاجِ الداخلِ.
المبحثُ السادسُ: أثرُ الزحــامِ في الطوافِ.
المبحثُ السابعُ: أثرُ الزحــامِ في السعيِ.
المبحثُ الثامنُ: أثرُ الزحامِ في الحلقِ أوِ التقصيرِ.
المبحثُ التاسعُ: أثرُ الزحامِ في النزولِ في الحَرَمِ.
المبحثُ العاشرُ: أثرُ الزحامِ في يومَيِ الترويةِ وعرفةَ.
المبحثُ الحادي عشرَ: أثرُ الزحامِ في ليلةِ مزدلفةَ.
المبحثُ الثاني عشرَ: أثرُ الزحامِ في يومِ النحرِ وأيامِ التشريقِ.
وقد سرتُ في كتابةِ هذا البحثِ وَفْقَ المنهجِ التالي:
- اقتصرتُ في مسائلِ البحثِ على ذكرِ أقوالِ المذاهبِ المشهورةِ، وقد أذكرُ قولَ بعضِ السلفِ، أوْ أنَّ هذا القولَ اختيارُ أحدِ أهلِ العلمِ من أهلِ التحقيقِ.
- عند عرضِ الأقوالِ في المسألةِ ذكرتُ أقوالَ المذاهبِ الأربعةِ مرتَّبةً حسبَ تأريخِها الزمنيِّ، فبدأتُ بمذهبِ الحنفيةِ، ثمَّ المالكيةِ، ثمَّ الشافعيةِ، ثمَّ الحنابلةِ. فإن كانَ هذا القولُ لبعضِ أتباعِ هذهِ المذاهبِ، فإنني سأذكرُهُ بعدَ ذكرِ المذاهبِ.
- وثَّقْتُ كلَّ مذهبٍ منَ المذاهبِ، بالإحالةِ إلى كُتُبِهِ الأصيلةِ، دونَ نقلِ كلامِهم، إلَّا إن دعتْ إلى ذلك حاجةٌ.
- بينْتُ ما ترجَّحَ لي ذاكرًا وجهَ الترجيحِ.
- عزوتُ الآياتِ القرآنيةَ بذكرِ السورةِ ورقمِ الآيةِ.
- خرَّجتُ الأحاديثَ والآثارَ الواردةَ في البحثِ، فإن كانتْ في الصحيحينِ أوْ أحدِهِما لم أذكرْ غيرَهُما، وإنْ كانت في الكتبِ الخمسةِ قمتُ بتخريجِها منها أو ممَّنْ أخرجَهُ منها، وسأبينُ ما قالَهُ أهلُ العلمِ فيها. فإنْ لم تكنْ في شيءٍ مما تقدَّم قمتُ بتخريجِها منْ كتبِ السنةِ حسبَ الطاقةِ معَ بيانِ درجتِها.
وفي ختامِ هذه المقدمةِ، أسألُ اللهَ تعالى أنْ يسددَني في القولِ والعملِ ، وأنْ ينفعَ بهذا البحثِ، وأنْ يجزلَ الثوابَ لكلِّ منْ أعانَ في إتمامِهِ ونشرِهِ.
كتبَهُ
أد. خالدُ بنُ عبدِ اللهِ المصلحُ
15/7/1427هـ