المسألةُ الثالثةُ: إعلانُ الموتِ في الخطبِ المنبريةِ:
ذكرُ خبرِ وفاةِ عالمٍ منَ العلماءِ، أو علَمٍ منَ الأعلامِ، في الخطبِ سواءٌ كانتْ خطبةَ الجمعةِ، أو خطبةً خاصةً، للإعلامِ بموتِهِ- ينقسمُ إلى قسمينِ:
القسمُ الأولُ:
أن يكونَ ذلكَ لإخبارِ الناسِ بموتِ من يهمُّهُم معرفةُ خبرِهِ، ولم يُسبقْ عِلمٌ عامٌّ بموتِهِ، أو كانَ ذلكَ لمصلحةٍ راجحةٍ؛ فالذي يظهرُ لي أنَّ ذلكَ جائزٌ لا حرجَ فيهِ، ولو اقترنَ بهِ ثناءٌ يسيرٌ مطابقٌ للواقعِ، وسواءٌ كانَ الإعلانُ في خطبةِ الجمعةِ، أو في خطبةٍ خاصةٍ للإعلامِ بموتِهِ.
ويدلُّ لهذا ما رواهُ البخاريُّ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: خطبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ لَهُ»، وَقَالَ: «مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» وَعيناهُ تذرفانِ رواه البخاري (3063)..
ويشهدُ لهُ أيضًا أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه خطبَ الناسَ لما اضطربوا في وفاةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بعدَ أن تيقَّنَ موتُهُ صلى الله عليه وسلم، فقالَ في خطبتِهِ المشهورةِ: "أمَّا بَعْدُ، مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ" رواه البخاري (4454)..
أمَّا دليلُ جوازِ الثناءِ اليسيرِ المطابقِ للواقعِ في خبرِ الوفاةِ ما رواهُ مسلمٌ من حديثِ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَاتَ عَبْدٌ للهِ صَالِحٌ أَصْحَمَةُ»، فقامَ فأمَّنا وصلَّى عليهِ (1583)..
ويحسُنُ في مثلِ هذا المقامِ إن كانَ الناسُ مصابينَ أن يصبِّرَهم ببيانِ أنَّ ما أصابَ الميتَ أمرٌ آتٍ على كلِّ أحدٍ، وأنهُ سبيلٌ لا بدَّ منهُ، وبابٌ لا بدَّ من دخولِهِ، وأن يبينَ وجوبَ الصبرِ وفضلَهُ وجميلَ عاقبتِهِ وسوءَ منقلَبِ التسخُّطِ والضجرِ.
القسمُ الثاني:
ألَّا يكونَ غرضٌ صحيحٌ منَ الإخبارِ بموتِ الميتِ، أو أن يكونَ الخطيبُ قد أكثرَ من ذكرِ مآثرِ الميتِ، وفضائلِهِ، وأعمالِهِ، وصفاتِهِ، أو عظيمِ الخسارةِ بموتِهِ؛ فإنَّ ذلك لا يجوزُ، وهو منَ النعيِ المحرَّمِ؛ إذ هو نظيرُ ما كانَ يفعلُهُ أهلُ الجاهليةِ من بعثِ المنادِي ينادِي بموتِ الميتِ، ويذكرُ مآثرَهُ ومفاخرَهُ. وقد تقدمَ في الكلامِ عنِ النعيِ ما يدلُّ على تحريمِ هذا القسمِ، لا سيَّما وأنَّ كثيرًا منَ الخطباءِ يذكرُ في كلامِهِ ما يهيِّجُ الأحزانَ، ويضعِفُ عن الصبرِ، ويبعدُ المصابينَ بالميتِ عنِ السلوةِ. ولا يشكُّ عالمٌ بمواردِ الشريعةِ ومصادرِها أنَّ مثلَ هذا لا يجوزُ.