المسألةُ الأولى: الإعلامُ بالموتِ مُجرَّدًا:
ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ منَ الحنفيةِ فتح القدير (2/127).، والمالكيةِ حاشية الدسوقي (1/424).، والشافعيةِ نهاية المحتاج (3/20).، والحنابلةِ الإقناع (1/331).، وغيرِهِم تحفة الأحوذي (4/61)، السيل الجرار (1/339).إلى جوازِ الإعلامِ بالموتِ من غيرِ نداءٍ؛ لأجلِ الصلاةِ.
بل ذهبَ جماعةٌ منَ العلماءِ إلى استحبابِ ذلكَ البناية شرح الهداية (3/267)، الخرشي على مختصر خليل (2/139)، الأذكار للنووي ص: (226)..
واستدلوا بما في الصحيحينِ البخاري (1168)، مسلم (1580).من حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نعى النجاشيَّ في اليومِ الذي ماتَ فيهِ، وخرجَ بهم إلى المصَلَّى فصفَّ بهم وكبَّرَ أربعًا.
واستدلُّوا أيضًا بما أخرجَ الشيخانِ البخاري (438)، مسلم (1588).من حديثِ أبي هريرةَ- رضي الله عنه- أنَّ امرأةً سوداءَ كانتْ تقُمُّ المسجدَ أو شابًّا، ففقدَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسألَ عنها أو عنهُ. فقالوا: ماتَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: ((أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي)).
وهذانِ الحديثانِ ظاهرانِ في إباحةِ الإعلامِ بالموتِ؛ لأجلِ الصلاةِ، بل هما دالَّانِ على الاستحبابِ، ولأنَّ ذلك وسيلةٌ لأداءِ حقِّهِ منَ الصلاةِ عليهِ، واتباعِ جنازتِهِ.
ومما يدلُّ على جوازِ إعلامِ مَنْ لم يَعْلمْ بموتِ الميتِ لمصلحةٍ غيرِ الصلاةِ عليهِ ما في صحيحِ البخاريِّ من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه؛ وفيهِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: نعى زيدًا وجعفرًا وابنَ رواحةَ للناسِ قبلَ أن يأتيَ خبرُهُم، فقالَ: ((أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ -وعيناهُ تذرفانِ- حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ)) (3474)..
ففي هذا الحديثِ نعى النبيُّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثةَ رضيَ اللهُ عنهم، ولم يكنْ ذلك النعيُ لأجلِ الصلاةِ عليهم، إنما لأجلِ إخبارِ المسلمينَ بخبرِ إخوانِهِم، وما جرى لهم في تلك الوقعةِ. وعليهِ فيجوزُ الإعلامُ بالموتِ لكلِّ غرضٍ صحيحٍ؛ كالدعاءِ لهُ، وتحليلِهِ، وما أشبهَ ذلك نهاية المحتاج (3/20).. وليسَ ذلك منَ النعيِ الذي نهى عنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بل إنَّ بعضَ ذلك مما دلتِ النصوصُ على فضلِهِ واستحبابِهِ، فقد أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ شهودَ الجنائزِ خيرٌ وبرٌّ وفضلٌ، وأجمعوا على أنَّ الدعاءَ إلى الخيرِ منَ الخيرِ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: "وكانَ أبو هريرةَ يمرُّ بالمجالسِ، فيقولُ: إنَّ أخاكم قد ماتَ فاشهدوا جنازتَهُ" الاستذكار (3/26)..
وذهبَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ منَ الصحابةِ ومَن بعدَهُم الاستذكار (3/26).كحذيفةَ بنِ اليمانِ- رضيَ اللهُ عنهُ- إلى عدمِ الإخبارِ بموتِ الميتِ خشيةَ أن يكونَ ذلك منَ النعيِ الذي نهى عنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قالَ البيهقيُّ:" ويُروَى في ذلك عنِ ابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وأبي سعيدٍ، ثم عن علقمةَ، وابنِ المسيبِ، والربيعِ بنِ خُثَيْمٍ، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ" السنن الكبرى للبيهقي (4/74)..
واستدلوا بما جاءَ عنْ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه- أنهُ قالَ: إذا متُّ فلا تؤذنوا بي أحدًا، إني أخافُ أن يكونَ نعيًا، فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينهى عنِ النعيِ. رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجه. وقالَ عنهُ الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ رواه أحمد (23848)، والترمذي (986)، وابن ماجه (1476). وهو من رواية بلال بن يحيى العَبْسي، عن حُذَيفَة رضي الله عنه، وقد قال ابن معين عن هذا الطريق: إنه مرسل، انظر: تحفة التحصيل (40)، وممن رجَّح كون روايته عن حُذَيفةَ مرسلةً ابنُ أبي حاتمٍ في الجرح والتعديل (2/396).. وقد حسنَهُ الحافظُ ابنُ حجرٍ فتح الباري (3/117)..
ولما رُويَ عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ؛ فَإِنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ)) (906)، وقد روى الترمذي هذا الحديث عن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، وموقوفًا، وقال عن الموقوف: وهذا أصح. ثم قال عن المرفوع: حديث عبد الله حسن غريب.. قالَ عبدُ اللهِ في بيانِ معنى النعيِ: أذانٌ بالميتِ جامع الترمذي (986).. فالنداءُ ورفعُ الصوتِ في الإخبارِ بموتِ الميتِ من فعلِ أهلِ الجاهليةِ الأذكار للنووي ص: (226)..
وقد حملَ النوويُّ ما وردَ عن هؤلاءِ على الكراهةِ المجموع شرح المهذب (5/216)..
وعندَ التأمُّلِ والنظرِ يتبينُ أنَّ النهيَ الواردَ عنِ النعيِ لا يعارضُ ما جاءَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من نعيِ النجاشيِّ، ونعيِ الأمراءِ على المنبرِ؛ فإنَّ النعيَ المنهيَّ عنهُ في قولِ حذيفةَ رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينهى عنِ النعيِ إنما هو في نعيِ الجاهليةِ، فالألفُ واللامُ للعهدِ الذهنيِّ، وهوَ ما كانَ معروفًا في الجاهليةِ من النعيِ، فلقد" كانَ من عادتِهِم إذا ماتَ منهم شريفٌ بَعثُوا راكبًا إلى القبائلِ يقولُ: نعايا فلانٍ، أو يا نعايا العربِ، أي: هلكتِ العربُ بمهلكِ فلانٍ، ويكونُ معَ النعيِ ضجيجٌ وبكاءٌ" الأذكار للنووي ص: (226)..
فيكونُ النعيُ المنهيُّ عنهُ محمولًا" على النعيِ لغيرِ غرضٍ دينيٍّ؛ مثلِ إظهارِ التفجُّعِ على الميتِ وإعظامِ حالِ موتِهِ. ويُحملُ النعيُ الجائزُ على ما فيه غرضٌ صحيحٌ؛ مثلُ طلبِ كثرةِ الجماعةِ تحصيلًا لدعائِهِم..." إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/158).، وما أشبهَ ذلكَ.
ولا يَرِدُ على هذا التوجيهِ" قولُ حذيفةَ رضي الله عنه؛ لأنهُ لم يقلْ: إنَّ الإعلامَ بمجردِهِ نعيٌ، وإنما قالَ: أخافُ أن يكونَ نعيًا، وكأنه خشيَ أن يتولدَ منَ الإعلامِ زيادةٌ مؤديةٌ إلى نعيِ الجاهليةِ" المجموع شرح المهذب (5/216)..
وعلى هذا فلا حرجَ في الإخبارِ بموتِ الميتِ لكلِّ غرضٍ صحيحٍ كما تقدمَ، واللهُ أعلمُ.