المسألة الثانية: تخريجها الفقهي:
الصيانة الترغيبية يمكن أن تخرّج على أحد التخريجين التاليين:
التخريج الأول: أنها وعد من البائع للمشتري.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: جواز هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء؛ لأن الأصل في المعاملات الحل.
ثانيًا: وجوب الوفاء بهذا الوعد ولزومه للبائع. وقد تقدمت أدلة وجوب الوفاء بمثل هذا الوعد .
التخريج الثاني: أنها بيع بشرط نفع البائع في المبيع.
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا الخلاف في صحة هذا الشرط، فقد اختلف أهل العلم فيه على قولين في الجملة:
القول الأول: أن هذا الشرط صحيح.
وهذا هو مذهب المالكيةينظر: بداية المجتهد (2/161)، القوانين الفقهية ص (171 – 172). والحنابلةينظر: المبدع (4/53 – 55)، الإنصاف (4/344 – 347)، كشاف القناع (3/190 – 191). في الجملة، وقد اشترط المالكية ينظر: بداية المجتهد (2/161)، القوانين الفقهية ص (171 – 172). للصحة أن تكون المشترطة يسيرة، أما الحنابلةينظر: المبدع (4/53 – 55)، الإنصاف (4/344 – 347)، كشاف القناع (3/190 – 191). فلم يشترطوا للصحة سوى علم المنفعة.
القول الثاني: أن هذا الشرط فاسد.
وهذا مذهب الحنفيةبدائع الصنائع (5/172)، المبسوط للسرخسي (13/15).
تنبيه: استثنى الحنفية في قولهم بالفساد الشرط الذي جرى عرف الناس في التعامل به، فإنه يكون شرطًا جائزًا.، والشافعيةينظر: روضة الطالبين (3/398 – 399)، نهاية المحتاج (3/450 – 451) ..
أدلة القول الأول:
استدل هؤلاء بأدلة كثيرةينظر: الشروط في عقد البيع للدكتور السلطان ص (207 – 214). أبرزها ما يأتي:
الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» رواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الأحكام - باب ما ذكر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصلح بين الناس -، رقم (1352)، (3/626)، من حديث عمرو بن عوف- رضي الله عنه -.
وروى البخاري أوله معلقًا بصيغة الجزم في كتاب الإجارة - باب أجر السمسرة - (2/135) بلفظ: "المسلمون عند شروطهم"، وأبو داود موصولًا في كتاب الأقضية- باب في الصلح -، رقم (3594)، (4/20)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -.
وقال الترمذي (3/626) عن رواية عمرو بن عوف - رضي الله عنه -: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/147) معلقًا على كلام الترمذي: "فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه"، ثم قال بعد ذكر بعض أسانيد هذا الحديث: "هذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا". وقال ابن حجر معلقًا على كلام الترمذي في بلوغ المرام (291): "وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه من حديث أبي هريرة"، وقال في تغليق التعليق (3/281): "حديث: (المسلمون عند شروطهم) روي من حديث أبي هريرة، وعمرو بن عوف، وأنس بن مالك، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكلها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها". وقال عنه ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/103) معلقًا على كلام الترمذي: "قد روي من طرق عديدة، ومقتضى القرآن وإجماع الأمة على لفظه ومعناه"، وقد صححه السخاوي في المقاصد الحسنة ص (386)، فقال مُعَلِّقًا على إخراج البخاري له مُعَلَّقًا: "فهو صحيح على ما تقرر في علوم الحديث"..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل الأصل في الشروط الإباحة إلا شرطًا حرَّم حلالًا، أو أحلّ حرامًا. وهذا شرط لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا.
الثاني: ما روى جابر– رضي الله عنه– أن النبي– صلى الله عليه وسلم– «نَهَى عن الثُّنْيَا إلا أنْ تُعلمَ» رواه مسلم في كتاب البيوع – باب النهي عن المحاقلة .. – رقم (1536 – 85) ، (3/1175)،
وأبو داود في كتاب البيوع– باب المخابرة - ، رقم (3404)، (3/693)، والترمذي في كتاب البيوع– باب ما جاء في النهي عن الثنيا - ، رقم (1290)، (3/576)، والنسائي في كتاب البيوع– باب النهي عن الثنيا حتى تعلم – رقم (4633)، (7/296)، وهو بهذا اللفظ عند الترمذي والنسائي، أما لفظ مسلم وأبي داود ففيه النهي عن الثنيا فقط..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أباح الاستثناء بالشرط إذا كان ذلك معلومًاينظر: الشرح الكبير لابن قدامة (11/216) . .
أدلة القول الثاني:
استدل هؤلاء بعدة أدلةينظر: الشروط في عقد البيع للدكتور السلطا ص (203 – 207) . أبرزها حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه -: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - «نَهَى عَن بَيعٍ وشرطٍ» رواه الطبراني في المعجم الأوسط رقم (4358)، (5/184)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص (128)، والخطابي في معالم السنن (5/154 – 155)، وابن حزم في المحلى (8/495).
وقال عنه النووي في المجموع شرح المهذب (9/368): "أما الحديث فغريب"، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/132): "ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين السنة". قال الزيلعي في نصب الراية (4/18): "قال ابن القطان: وعلته ضعف أبي حنيفة في الحديث" وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (491)، (1/499): "لا أصل له". .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الجمع بين البيع والشرط، فدلَّ ذلك على عدم جواز الشروط في البيعينظر: شرح فتح القدير (6/441)، مغني المحتاج (2/31). .
المناقشة:
نوقش هذا بثلاثة أمور:
1 - أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجةينظر: شرح فتح القدير (6/441)، مغني المحتاج (2/31). ، وقد بينت ذلك في تخريجه.
2 - أنه مخالف للإجماع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناقشة هذا الحديث: ((وقد أجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط العبد كاتبًا، أو صانعًا أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك شرط صحيح)) مجموع الفتاوى (29/132). .
3 - أنه مخالف للأحاديث الثابتة التي فيها جواز الشروط في البيع؛ كحديث عائشة في قصة عتقها بريرة وغيره.
الترجيح:
الراجح من هذين القولين هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وضعف أدلة القول الثاني، والله تعالى أعلم.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بأن الصيانة الترغيبية لم يشترطها المشتري، بل هي ممنوحة من البائع دون اشتراط، فليس فيها معنى الشرط ولا لفظه.
الترجيح بين التخريجات:
الذي يظهر- والله أعلم- أن الأقرب للصواب هو أن تخرّج الصيانة الترغيبية على أنها وعد بمنفعة البائع في المبيع؛ وذلك لأن صيانة المبيع في الصيانة الترغيبية لم يشترطها المشتري، بل يعد بها البائع ابتداء ترغيبًا وتشجيعًا على الشراء منه.