المسألة الثانية: ضمان البائع عيب المبيع:
الأصل في عقد البيع أنه يقتضي سلامة المبيع من العيوب؛ لأن المقصود منه انتفاع المشتري بالمبيع، وهذا لا يتكامل تحقيقه وتحصيله، إلا بقيد السلامة في المبيعينظر: بدائع الصنائع (5/274)، منحة الخالق لابن عابدين (6/45)، عقد الجواهر الثمينة (2/469)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/376).. ولذلك أثبتت الشريعة للمشتري الخيار فيما إذا تبين أن المبيع معيب قبل قبض المشتري استدراكًا لما قد يفوته، وإزالة للضرر ببقاء العيبينظر: الممتع في شرح المقنع (3/97).. وهذا بالاتفاق فيما إذا كان العيب حادثًا في المبيع قبل البيعحكى هذا الاتفاق: ابن المنذر في كتاب الإقناع (1/262)، وابن رشد في بداية المجتهد (2/186)..
أما إذا كان العيب حدث في المبيع بعد العقد، وقبل قبض المشتري، ففي كونه من ضمان البائع خلاف بين أهل العلموهو كخلافهم في هلاك المبيع في يد البائع بآفة سماوية أو بفعل غير المشتري.
[ينظر: بدائع الصنائع (5/275)، حاشية الدسوقي (3/149)، مغني المحتاج (2/68)، مطالب أولي النهى (3/11)، المحلى (8/111)] ..
فإذا كان عيب المبيع قد حدث بعد قبض المشتري فإن الإجماع منعقد على أنه من ضمان المشتريحكى هذا الإجماع: ابن رشد في بداية المجتهد (2/186)، وابن حزم في مراتب الإجماع ص (85)، المحلى (8/379). إلا في مسائل معدودة وقع الخلاف فيها بين أهل العلم، هل هي من ضمان البائع، أو من ضمان المشتري؟، وهذه المسائل هي:
أولًا: بيع العُهْدَة (عهدة الرقيق):
وهو بيع يتعلق فيه ضمان المبيع بالبائع في زمن معينينظر: المنتقى للباجي (4/173)، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن للرسالة (2/160)، الشرح الصغير للدردير (2/483). وهذه العُهْدَة تثبت للمشتري في الرقيق خاصة، ولو حدث العيب فيه بعد قبض المشتري، ولهذا فإنها تسمى عهدة الرقيقينظر: الموطأ (2/612)، مواهب الجليل (4/473)، بلغة السالك (2/483، وهي نوعان:
الأول: عهدة ثلاثة أيام:
وهي كثيرة الضمان قصيرة الزمانينظر: الشرح الصغير للدردير (2/483).، فالضمان فيها شامل لجميع العيوب، والأدواء، وما يطرأ على الرقيق، من نقص في بدن أو فوات عين في مدة ثلاثة أيامينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/499)، بداية المجتهد (2/176). .
الثاني: عهدة السنة:
وهي قليلة الضمان طويلة الزمانينظر: الشرح الصغير للدردير (2/483).، فالضمان فيها يشمل ثلاثة أدواء فقط، وهي: الجنون، والجذام، والبرصينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/499). .
وهذا النوع من الضمان انفرد به المالكية دون سائر أهل العلمينظر: بداية المجتهد (2/176)، القبس لابن العربي (2/788)، الذخيرة للقرافي (5/114)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/391 – 392).
تنبيه: لعل الذي انفرد به مالك هو عهدة السنة، وكون هذه العهدة في ثلاثة أيام شاملة لجميع العيوب وما قد يطرأ من نقص أو فوات عين المبيع؛ لأنه نقل عن الإمام أحمد أن العيب إذا كان مما يمكن في البدن ثم يظهر، كالجنون والجذام والبرص، فإنه إذا ظهر قبل مضي ثلاثة أيام من حين الابتياع ، فإنه يثبت به الرد؛ لأنه تبين أنه كان كامنًا في المبيع.
[ينظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلي (2/341 – 342)، الإنصاف (4/415)] ..
وقد استدل المالكية لهذين القسمين بعدة أدلة:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» رواه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات– باب في عهدة الرقيق-، رقم (3506)، (3/776)، وابن ماجه في كتاب التجارات– باب عهدة الرقيق-، رقم (2244)، (2/754)، كلاهما بهذا اللفظ، ورواية أبي داود من حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه-، ورواية ابن ماجه من حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه- وقد رواه عقبة أيضًا بلفظ: "لا عهدة بعد أربع"، وهو عند أحمد عن عقبة بهذا اللفظ (4/143).
وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/395): "سئل أبي عن حديث الحسن عن سمرة، والحسن عن عقبة بن عامر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (عهدة الرقيق ثلاث) قال أبي: ليس هذا الحديث عندي بصحيح، وهذا عندي مرسل".
وقال البغوي في شرح السنة (8/149): "وضعّف أحمد هذا الحديث، وقال: لم يسمع الحسن من عقبة ولا يثبت في العهدة حديث".
وقال البيهقي في سننه الكبرى (5/323): "مدار هذا الحديث على الحسن عن عقبة بن عامر، وقال الطحاوي كما في مختصر اختلاف العلماء (3/99): "الحسن لم يسمع من عقبة، ولم يلقه"، ثم قال (31/100): "فقد خرج مذهب مالك من أن يكون له أصل في الكتاب، والسنة، والإجماع". وقد ضعّفه أيضًا السبكي في تكملة المجموع (12/131).
وقال ابن حزم في المحلى (8/380): "أما الحديثان فساقطان"..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أثبت عهدة للمشتري على البائع مدة ثلاثة أيامينظر: بداية المجتهد (2/177)، الاستذكار (19/39 – 4).
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن هذا الحديث لا يصح، فلا يحتج بهينظر: مختصر اختلاف العلماء (3/99)، بداية المجتهد (2/177)، الاستذكار (19/40)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/391). ، وقد بينت ذلك في تخريجه.
2- يحتمل أن يكون المراد المشروط في البيعينظر: مختصر اختلاف العلماء (3/99). فيكون من خيار الشرط.
3- أنه مخالف للأصولينظر: بداية المجتهد (2/177). ؛ إذ الأصل أن العين مضمونة على مالكها.
الثاني: عمل أهل المدينة؛ فإن عملهم جرى على إثبات العهدتين في الرقيق، وتناقلهما الخلف عن السلفينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/499)، الاستذكار (19/38 – 39). .
المناقشة:
نوقش هذا بأن إجماع أهل المدينة وعملهم ليس حجة تثبت بها الأحكامينظر: الشرح الكبير لابن قدامة (11/392).
تنبيه: لمعرفة أقوال أهل العلم في حجّية عمل أهل المدينة.
[ ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (4/483 – 489)، عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين للدكتور سيف ص (73 – 101)]..
الثالث: أن الرقيق يكتم عيبه، فيُستظهر عليه بثلاثة أيام حتى يتبين للمشتري ما كتم عنه، فهذه المدة نظير ما جعل في التصرية التي دلس بها البائعينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/500)، المنتقى للباجي (4/173)، الذخيرة للقرافي (5/115)..
الرابع: أن الأدواء التي تضمن في عهدة السنة أدواء تتقدم أسبابها، ويظهر ما يظهر منها في فصل من فصول السنة دون فصل بحسب ما أجرى الله تعالى العادة في ذلك، فجعلت هذه العهدة سنة حتى تؤمن هذه العيوب، ومن التدليس بهاينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/500)، المنتقى للباجي (4/173)، الذخيرة للقرافي (5/115)..
المناقشة:
نوقش هذان التعليلان بأن الداء الكامن لا عبرة به، وإنما النقص بما ظهر لا بما كمنتكملة المجموع للسبكي (12/131)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/392) . .
الإجابة:
أجيب عن هذا بأنه غير مسلَّم؛ لأن الكامن إذا دلّ عليه دليل بعد ذلك، وعلم به، صار كالظاهر ينظر: تكملة المجموع للسبكي (12/13). .
ثانيًا: أن يكون العيب مستندًا إلى سبب سابق على القبض:
اختلف أهل العلم– رحمهم الله– في العيب الحادث بعد قبض المشتري إذا كان يستند إلى سبب سابق على القبض، هل هو من ضمان المشتري، أو من ضمان البائع؟ على قولين:
القول الأول: أنه من ضمان البائع:
وهذا هو المذهب عند الحنفيةينظر: شرح فتح القدير (6/392)، الفتاوى الهندية ص (3/78 – 79). ، والأصح عند الشافعيةينظر: المنهاج للنووي ص (186)، تكملة المجموع للسبكي (12/132 – 133)، إعانة الطالبين (3/31). .
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري ما لم يدلس البائع:
وهذا هو مذهب المالكيةينظر: حاشية الدسوقي (3/128، 131)، الشرح الصغير للدردير (2/471 – 472).، وقول للشافعيةينظر: روضة الطالبين (3/464 – 465)، السراج الوهاج شرح المنهاج ص (186)، ومذهب الحنابلةينظر: الممتع في شرح المقنع (3/110)، كشاف القناع (3/228)، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (8/375). .
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هو هل وجود سبب العيب يعد عيبًا أو لا؟
فمن قال بأنه عيب جعله من ضمان البائع، ومن قال بأنه ليس عيبًا جعله من ضمان المشتريينظر: شرح فتح القدير (6/392 – 393)..
ثالثًا: الجوائح:
الجوائح في اللغة؛ جمع جائحة، وهي النازلة العظيمة التي تستأصل المال وتهلكهينظر: لسان العرب، مادة (جوح)، (2/431)..
أما عند الفقهاء؛ فهي كل ما أذهب الثمرة، أو بعضها، بغير جناية آدميينظر: الأم للشافعي (3/58)، وينظر كتاب الجوائح وأحكامها للدكتور الثنيان ص (17 – 29). .
وقد اختلف أهل العلم في القول بوضع الجوائح في الثمار على قولين:
القول الأول: القضاء بوضع الجوائح، وأنها من ضمان البائع.
وهذا مذهب المالكيةينظر: الذخيرة للقرافي (212 – 215)، القوانين الفقهية ص (173). ، وقديم قولي الشافعيينظر: روضة الطالبين (3/562)، مغني المحتاج (2/92).، ومذهب الحنابلةينظر: شرح منتهى الإرادات (2/212-213). .
القول الثاني: عدم القضاء بوضع الجوائح، وأنها من ضمان المشتري.
وهذا مذهب الحنفيةينظر: شرح معاني الآثار (4/36)، إعلاء السنن (14/39 – 40)، وقول الشافعي في الجديدينظر: روضة الطالبين (3/562)، مغني المحتاج (2/92). .
وسبب الخلاف في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيها، وتعارض المقاييسينظر: بداية المجتهد (2/187)..