المسألة الثانية: أن يكون الرد الترغيبي غير مشروط:
الفرع الأول: واقعها:
واقع هذه الصورة أن تُشترى السلعة في بيع باتٍّ، ولا يشترط فيه المشتري التبديل، ثم إنه يرغب المشتري في رد السلعة، فيمكّنه البائع من ذلك، لكن بشرط أن يعتاض عن ثمنها ماشاء من السلع التي عند البائع، فإن لم يجد ما يرغب في شرائه أعطاه سندًا يقيد فيه ثمن السلعة المردودة؛ ليستفيد منه في شراء ما شاء، متى شاء.
الفرع الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها:
تخرّج هذه الصورة من صور الرد الترغيبي على أنها إقالةالإقالة: رفع العقد، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين. [ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة (إقالة)، (5/324)، موسوعة الفقه الإسلامي، مادة (إقالة)، (20/99 - 100)]. شُرط فيها أن يكون ثمن السلعة الأولى ثمنًا في معاوضة جديدة.
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي، ويدل لذلك ما يلي:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ» رواه أبو داود في كتاب البيوع- باب في فضل الإقالة -، رقم (3460)، (3/738)، وابن ماجه في كتاب التجارات- باب الإقالة -، رقم (2199)، (2/741). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال عنه الحاكم في مستدركه (2/45): "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في التلخيص (2/45)..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حثّ على الإقالة، وهي رفع العقد، وإزالة حكمه بتراضي العاقدين، وهذه الصورة رفع فيها حكم البيع السابق، وألغيت آثاره.
المناقشة:
يناقش هذا: بأن مقتضى الإقالة رد الأمر إلى ما كان عليه قبل عقد البيع، ورجوع كل واحد إلى ما لهينظر: قواعد ابن رجب ص (380)، كشاف القناع (3/250). ، وفي هذه الصورة الثمن لم يرجع إلى المشتري، بل جعل ثمنًا في معاوضة أخرى.
الإجابة:
يجاب بأن عدم قبض المشتري لثمن السلعة لا يعني عدم رد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد، فالأمر في الحقيقة عاد إلى ما كان عليه، فالبائع رجع بالمبيع، والمشتري رجع الثمن، إلا أن الثمن بقي دينًا في ذمة البائع، وليس في هذا ما ينافي مقتضى الإقالة.
الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» رواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الأحكام- باب ما ذكر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصلح بين الناس -، رقم (1352)، (3/626)، من حديث عمرو بن عوف- رضي الله عنه -. وروى البخاري أوله معلقًا بصيغة الجزم في كتاب الإجارة- باب أجر السمسرة- (2/135) بلفظ: "المسلمون عند شروطهم"، وأبو داود موصولًا في كتاب الأقضية- باب في الصلح -، رقم (3594)، (4/20)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -. وقال الترمذي (3/626) عن رواية عمرو بن عوف- رضي الله عنه -: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/147) معلقًا على كلام الترمذي: "فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه"، ثم قال بعد ذكر بعض أسانيد هذا الحديث: "هذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا". وقال ابن حجر معلقًا على كلام الترمذي في بلوغ المرام (291): "وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه من حديث أبي هريرة"، وقال في تغليق التعليق (3/281): "حديث: (المسلمون عند شروطهم) روي من حديث أبي هريرة، وعمرو بن عوف، وأنس بن مالك، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكلها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها". وقال عنه ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/103) معلقًا على كلام الترمذي: "قد روي من طرق عديدة، ومقتضى القرآن وإجماع الأمة على لفظه ومعناه"، وقد صححه السخاوي في المقاصد الحسنة ص (386)، فقال مُعَلِّقًا على إخراج البخاري له مُعَلَّقًا: "فهو صحيح على ما تقرر في علوم الحديث"..
وجه الدلالة:
أن هذه الصورة من الإقالة شُرط فيها شرط ليس محرمًا في ذاته، ولا يؤدي إلى محرم، فلا وجه لإفساده، لعدم الدليل.
المناقشة:
نُوقش هذا بأن شرط المعاوضة الجديدة في الإقالة نظير قول المشتري للبائع: أقلني وأنظرك في الثمن، وهذا قد منع منه بعض أهل العلمينظر: الاستذكار (20/27)، فتح الجواد (1/413). .
الإجابة:
يُجاب عن هذا بثلاثة أمور:
1- أن أهل العلم مختلفون في هذه المسألة على قولين بين مجيز ومانعينظر: بداية المجتهد (2/207)، الاستذكار (20/27)، الفتاوى السعدية (305). ، وإذا كان كذلك فلا يصلح القياس عليها.
2- أن القائلين بالمنع عللوا ذلك بأن الإنظار في الثمن زيادة فيه، والإقالة لا زيادة فيها للبائع ولا للمشتريينظر: بداية المجتهد (2/207)، الاستذكار (20/27)، الفتاوى السعدية (305). ، وهذا المحذور ليس قائمًا في هذه الصورة من الرد الترغيبي؛ إذ الإقالة فيه على مثل الثمن الأول.
3- أن أقرب ما تُنظّر به هذه المسألة هي حكم صرف رأس مال السلمالسَّلَم: اختلف أهل العلم في تعريفه تبعًا لاختلافهم في الشروط المعتبرة فيه، إلا أنهم اتفقوا على أن السلم: بيع موصوف في الذمة ببدلٍ يعطى عاجلًا. [ينظر: حاشية ابن عابدين (5/209)، شرح حدود ابن عرفة (2/395)، نهاية المحتاج (4/182)، منتهى الإرادات (1/390)] - أي: ثمنه - بعد الإقالة في عقد آخر قبل قبضه.
وهذه المسألة لأهل العلم فيها قولان: الأول الجواز، والثاني المنعينظر: الاستذكار (20/24 - 25)، بداية المجتهد (2/205)، الشرح الكبير لابن قدامة (12/303)، مجموع الفتاوى (29/503 - 518)، الإنصاف (5/114-115). .
والقائلون بالمنع إنما ذهبوا إلى ذلك لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ» رواه أبو داود في كتاب البيوع- باب السلف لا يُحوّل-، رقم (3468)، (3/744) بهذا اللفظ له، ورواه ابن ماجه في كتاب التجارات- باب من أسلم في شيء لا يصرفه إلى غيره -، رقم (2283)، (2/766)، من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -. وقال عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (29/517): "الحديث ضعيف". وقال عنه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/25): "فيه عطية العوفي، وهو ضعيف، وأعلّه أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب"، وقال عنه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/71): "رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد ضعيف". .
وعلى كل حال فإن هذه الصورة من الرد الترغيبي لا تدخل في هذا الحديث لا نصًّا ولا معنًى؛ لأنه يجوز لكل واحد من المتعاقدين التصرف فيما عاد إليه قبل أن يستردهينظر: شرح السنة للبغوي (8/162)، الفروع (4/185). ؛ لعدم المانع، فليست هذه الصورة من السلم ولا هي في معناه.
الثالث: الأحاديث الدالة على السماحة في البيع والسهولة فيه؛ كقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا باعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» رواه البخاري في كتاب البيوع- باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع... -، رقم (2076)، (2/81). من حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما -.، ولا شك أن التوسعة على المشتري بتمكينه من تبديل المبيع في العقد اللازم من الإحسان والمعروف والسماحة في البيع، فلا وجه لمنعه؛ إذ الأصل في الإقالة أنها معروف وإحسانينظر: البهجة في شرح التحفة (2/282 - 283). .
الرابع: أن الأصل في المعاملات الحل ما لم يدل دليل على التحريم، فلا يمنع الناس من شيء من المعاملات إلا بدليل بيِّن.