المسألة الأولى: أن يكون الرد الترغيبي مشروطًا:
الفرع الأول: واقعها:
واقع هذه الصورة أن يقول المشتري للبائع: أشتري هذه السلعة، على أن لي أن أردها خلال ثلاثة أيام مثلًا، وآخذ بثمنها ما أختاره من السلع، إما في الحال إن وجَدت ما أرغب في شرائه، أو فيما بعد. ولإثبات ذلك يعطي البائع المشتري سندًا يقيد فيه ثمن السلعة المردودة، ويبين فيه أن للمشتري الحق في الاستفادة من المبلغ المسجل على السند في أخذ ما شاء من السلع التي يتجر بها البائع.
الفرع الثاني: تخريجها الفقهي:
هذه الصورة من الرد الترغيبي تحتمل أحد تخريجين.
التخريج الأول: أن هذه الصورة من الرد الترغيبي هي في الحقيقة بيع بشرط.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: الخلاف في صحة هذا الشرط. فبالنظر إلى ضوابط أهل العلم في الشرط الصحيح والشرط الفاسد يمكن أن يقال: إن في هذا الشرط قولين:
القول الأول: أن هذا شرط صحيح.
القول الثاني: أن هذا شرط فاسد.
أدلة القول الأول:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» رواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الأحكام- باب ما ذكر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصلح بين الناس -، رقم (1352)، (3/626)، من حديث عمرو بن عوف - رضي الله عنه -. وروى البخاري أوله معلقًا بصيغة الجزم في كتاب الإجارة- باب أجر السمسرة- (2/135) بلفظ: "المسلمون عند شروطهم"، وأبو داود موصولًا في كتاب الأقضية- باب في الصلح -، رقم (3594)، (4/20)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -. وقال الترمذي (3/626) عن رواية عمرو بن عوف- رضي الله عنه -: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/147) معلقًا على كلام الترمذي: "فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه"، ثم قال بعد ذكر بعض أسانيد هذا الحديث: "هذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا". وقال ابن حجر معلقًا على كلام الترمذي في بلوغ المرام (291): "وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه من حديث أبي هريرة"، وقال في تغليق التعليق (3/281): "حديث: (المسلمون عند شروطهم) روي من حديث أبي هريرة، وعمرو بن عوف، وأنس بن مالك، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكلها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها". وقال عنه ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/103) معلقًا على كلام الترمذي: "قد روي من طرق عديدة، ومقتضى القرآن وإجماع الأمة على لفظه ومعناه"، وقد صححه السخاوي في المقاصد الحسنة ص (386)، فقال مُعَلِّقًا على إخراج البخاري له مُعَلَّقًا: "فهو صحيح على ما تقرر في علوم الحديث"..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل الأصل في الشروط الصحة واللزوم، إلا ما كان منها مخالفًا لكتاب الله، أو لسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- ينظر: التمهيد لابن عبد البر (14/23)، مجموع الفتاوى (29/147 - 148)، المختارات الجليّة لابن سعدي ص (233 - 234)..
الثاني: أن الأصل في المعاملات الحل، إلا إذا قام الدليل على التحريم، ولا دليل.
الثالث: القياس على خيار الشرط، بجامع دعاء الحاجة إلى التروي والنظر، فالحاجة في خيار الشرط داعية إلى النظر والتروي في إمضاء العقد أو فسخه، والحاجة داعية أيضًا في هذه الصورة إلى النظر والتأمل والتروي في إمساك المبيع أو تبديله.
الرابع: أنه بالنظر إلى كلام أهل العلم في ضابط الشرط الصحيح يتبين أن الشرط في هذه الصورة من الرد الترغيبي شرط صحيح، ويتضح ذلك بما يلي:
1- أن من ضوابط كون الشرط صحيحًا عند الحنفية أن يكون مما جرت عليه المعاملة بين الناس، فما جرى عليه العمل بين الناس من الشروط، فهو صحيحينظر: بدائع الصنائع (5/171، 170)، الهداية للمرغيناني (2/53). ، والشرط في هذه الصورة هو مما جرى عليه التعامل بين الناس في أكثر الأسواق.
2- أن من ضوابط الشرط الصحيح عند المالكية ألا يناقض الشرط مقصود العقد ومقتضاه، وأن يكون فيه مصلحة للعقدينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/424)، المقدمات والممهدات (2/67، وبالنظر إلى هذا الضابط يتبين صحة هذا الشرط؛ لكونه لا يناقض مقصود العقد، وفيه مصلحة للعقد.
3- أن من ضوابط الشرط الصحيح عند الشافعيةينظر: المهذب (3/50 - 52)، روضة الطالبين (3/403 - 404)، مغني المحتاج (2/34). ، والحنابلةينظر: بلغة الساغب ص (180)، منتهى الإرادات (1/351 - 352). أن يحقق الشرط مصلحة للعاقدين أو أحدهما. وبالنظر إلى هذا الشرط يتضح أنه يحقق مصلحة راجحة للمشتري، لاسيما إذا لم يوافق البائع على أن يشترط المشتري الخيار.
وأما الظاهرية فالأصل عندهم بطلان الشروط، إلا ما جاء في الكتاب والسنة جواز اشتراطهينظر: المحلى (8/412). ، وقد تقدم مناقشة قولهم هذا وبيان ضعفهينظر: ص (81-82). .
ومما تقدم يمكن أن يقال: إن اشتراط المشتري تبديل السلعة المبيعة شرط صحيح، إلا على قول الظاهرية.
أدلة القول الثاني:
عمدة أصحاب هذا القول أن هذا الشرط شرط باطل داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ».
ويتضح وجه بطلانه بما يلي:
1- أنه شرط يفضي إلى الغرر وجهالة المبيع، حيث إن المشتري إذا اختار تبديل السلعة لزمه أن يعتاض عنها بأخذ سلعة من السلع التي يتجر بها البائع، وهذه السلعة البديلة مجهولة؛ إما جهالة مطلقة فيما إذا كانت سلع البائع مختلفة متنوعة، وإما أن تكون مجهولة جهالة عين فيما إذا كان البائع يتّجر في نوع واحد من السلع، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يصح بيع المجهولحكى ذلك: ابن رشد في بداية المجتهد (2/148)، وابن العربي في القبس (2/791)، والنووي في شرح مسلم (10/156)، وابن قدامة في المغني (6/298). ، وأن ذلك داخل في نهي النبي- صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر. ولذلك كان المذهب عند الحنفيةينظر: بدائع الصنائع (5/198). ، والمالكيةينظر: المقدمات والممهدات (2/67)، بداية المجتهد (2/160). ، والشافعيةينظر: شرح المحلي على منهاج الطالبين (2/181). ، والحنابلةينظر: منتهى الإرادات (1/354)، مطالب أولي النهى (3/76)، المختارات الجليّة لابن سعدي ص (235). أن ما أفضى إلى الجهالة والغرر من الشروط فهو فاسد.
المناقشة:
يناقش هذا بأمرين:
أ. أن الجهالة في المبيع منتفية، إذ إن المبيع معلوم فيما إذا لم يختر المشتري التبديل، أما إذا اختار رد السلعة فإن المشتري سيعقد على سلعة معلومة له وللبائع في وقت التبديل، فلا جهالة حينئذٍ، وعلى التسليم بأن في المبيع جهالة، فإنها جهالة غير مؤثرة؛ لأن القاعدة في الجهالة التي تمنع من صحة العقد أن تكون مؤدية إلى القمار والغررينظر: إعلام الموقعين (3/354). ، وهذه لاتؤدي إلى ذلك، فليست جهالة مؤثرة.
ب. أن الغرر الذي نهى عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- في البيوع هو ما كان المبيع فيها مترددًا بين أن يسلم للمشتري، فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يهلك المبيع، فلا يحصل المقصود بالعقد، وذلك كبيع الثمرة قبل بدو صلاحهاينظر: العقود لابن تيمية ص (224). . أما هنا فالمشتري ليس مخاطرًا، بل سيحصل له المقصود بالعقد على كل حال، فلا غرر إذن.
2- أن هذا الشرط يفضي إلى المنازعات والتشاجر والاختلاف؛ لكونه شرطًا يفضي إلى جهالة المبيعينظر: بدائع الصنائع (5/179)، الممتع شرح المقنع (3/33)، الروض النضير للحيمي (3/21). ، ولأن البيع فيه غير بات في المبيع، ولكون البائع قد لا يكون عنده من السلع ما يرغب المشتري في شرائه، وغير ذلك مما قد يبعث الخلاف والنزاع.
المناقشة:
يناقش هذا بأن إفضاء هذا الشرط إلى المنازعة فيه بعد؛ لكون المبيع معلومًا لهما، ولأن الاختيار فيه للمشتري وحده، ولأنه لا يلزم ببديل معين، بل يختار من سلع البائع ما شاء بقدر ثمن السلعة المردودة، فإذا لم يجد ما يرغب في شرائه، فهو بالخيار بين أن يمسك السلعة الأولى، وبين أن يردها، ويقيد البائع ثمنها في سند يعطيه المشتري؛ ليستفيد منه في شراء ما شاء من السلع التي يتجر بها البائع.
أما كون البيع غير بات في المبيع، فذلك نظير خيار الشرط، ومع ذلك لم يمنعه الشارع.
وعلى كل حال، فكل هذه الإيرادات التي تعد أسبابًا لإثارة النزاع ليس منشؤها الشرط، بل منشؤها عدم الوفاء به، وهذا يطرأ على جميع العقود والشروط، ولم يكن سببًا لإفسادها.
3- أن هذا الشرط قد يتضمن إكراه المشتري على شراء ما لا يرضاه؛ لاستنقاذ ثمن سلعته المردودة، فلا يكون بذلك قد حصل منه التراضي الذي تُبنى عليه عقود المعاوضاتينظر: العقود لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (152 - 153). ، كما في قول الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ سورة النساء، جزء آية: (29). .
المناقشة:
يناقش هذا بأن الإكراه على الشراء الذي تضمنه العقد في حال اختيار المشتري تبديل السلعة ليس إكراهًا ينافي التراضي الذي تبنى عليه المعاوضات؛ وذلك لأن هذا الشرط قد رضي به المشتري، والتزم به أولًا دون إكراه، فلزوم الوفاء به لا يسمى إكراهًا، ثم إن للمشتري إمساك السلعة التي رضيها أولًا، فإذا اختار تبديلها، فإنه لا يلزم بأخذ سلعة معينة، بل له اختيار ما شاء من سلع البائع بقدر ثمن السلعة المردودة، فهو لا يأخذ بديلًا إلا بتراضٍ منه ومن البائع، فلا إكراه حينئذٍ.
الترجيح:
وبعد هذا العرض لحجج القولين، فإن الأقرب إلى الصواب هو القول بصحة هذا الشرط؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، والله- تعالى- أعلم.
ثانيًا: الاختلاف في لزوم هذا الشرط بناء على الخلاف في صحته.
فمن قال: إن الشرط صحيح، فالشرط عنده لازم يجب الوفاء به.
ومن قال: بأنه فاسد، فهو غير لازم، بل يحرم الوفاء به؛ لدخوله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب البيوع- باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل- رقم (2168)، (2/106)، ومسلم في كتاب العتق- باب إنما الولاء لمن أعتق- رقم (1504)، (2/1141-1143)، من حديث عائشة رضي الله عنها.، فكل شرط اشتمل على ما حرّمه الله ورسوله، فهو باطلينظر: الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/93 - 94).
ثالثًا: الخلاف في جواز استعمال هذه الصورة من الرد الترغيبي:
فمن قال بصحة هذا الشرط فاستعمال هذه الصورة جائز عنده، ومن قال بفساده فاستعمالها محرم عنده.
رابعًا: الخلاف في صحة البيع بهذا الشرط، فمن قال بصحة الشرط فالبيع عنده صحيح.
ومن قال بفساد الشرط فلهم قولان في صحته بناء على اختلافهم في صحة البيع إذا اشترط فيه شرط فاسد:
القول الأول: يصح البيع دون الشرط.
وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفيةينظر: شرح فتح القدير (6/302)، البناية في شرح الهداية (7/78 - 79)، الفتاوى الهندية (3/38 - 39). ، وهو قول عند المالكيةينظر: بداية المجتهد (12/161). ، والصحيح من مذهب الحنابلةينظر: المحرر في الفقه (1/314)، المبدع (4/57)، الإنصاف (4/351)، مطالب أولي النهى (3/91). ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميةينظر: مجموع الفتاوى (29/340)، (32/161). .
القول الثاني: يفسد البيع والشرط.
وهذا مذهب الحنفيةينظر: بدائع الصنائع (5/174)، شرح فتح القدير (6/300 - 301). ، والمالكيةينظر: حاشية الدسوقي (3/94)، التاج والإكليل (4/412 - 413). ، والشافعيةينظر: الحاوي الكبير (5/66 - 67)، زاد المحتاج (2/51). ، وهو رواية عن الإمام أحمدينظر: المغني (6/43 - 44)، الفروع (4/63، 64). .
أدلة القول الأول:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم- لعائشة- رضي الله عنها- في قصة عتق بريرة: «خذيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق»، ثم قال- صلى الله عليه وسلم -: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب البيوع- باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل- رقم (2168)، (2/106)، ومسلم في كتاب العتق- باب إنما الولاء لمن أعتق- رقم (1504)، (2/1141-1143)، من حديث عائشة رضي الله عنها..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أبطل الشرط الفاسد دون البيع؛ حيث قال: «خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ»، فالبيع صحيح مع بطلان الشرطينظر: المغني (6/43). .
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بأن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» بمعنى (على)، أي: اشترطي عليهم الولاءينظر: فتح الباري (5/191). .
الإجابة:
أجيب على هذا التأويل بأن الولاء ثابت للمعتق، فلا حاجة إلى اشتراطهينظر: المجموع شرح المهذب (9/372). ، وإنما أمرها بأن تشترط لهم الولاء؛ لأنهم أبوا البيع إلا بهذا الشرط الفاسد. فكأنه قال لها بأمره هذا: اشترطي لهم أو لا تشترطي، فإنما الولاء لمن أعتقينظر: فتح الباري (5/191)، كشاف القناع (4/194). .
الثاني: أن البيع قد تم بأركانه، والشرط الفاسد شرط زائد، فإذا سقط لفساده بقي البيع صحيحًا، كما لو لم يشترط هذا الشرط الفاسدينظر: المغني (6/44). .
أدلة القول الثاني:
الأول: أن هذا شرط فاسد قارن البيع فأفسده، كما لو شرط عقدًا آخرينظر: المغني (6/43)، المبدع (4/57)..
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال بأمرين:
1- أن المسألة المقيس عليها، وهي شرط عقد في عقد غير، متفق عليها، بل فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يصحح العقد ويبطل الشرط، ومنهم من يبطلهماينظر: بداية المجتهد (2/61)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/230- 231).، ومعلوم أن من شروط صحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه متفقًا على حكمهينظر: شرح الكوكب المنير (4/27)..
2- أن هذا قياس في مقابلة النص، وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صحح في قصة شراء عائشة بريرة البيع، وأبطل الشرط، فلا يصح اعتبار هذا القياسينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (5/319)، التمهيد لأبي الخطاب (4/191). .
الثاني: أن هذا الشرط الفاسد له أثر في الثمن، فإذا بطل الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وذلك مجهول، فيصير الثمن مجهولًاينظر: الممتع في شرح المقنع (3/65)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/233). .
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال من وجهين:
1- أن هذا من صور معارضة النصوص بالرأي والعقل، وهذا مسلك غير مقبول.
2- أن مشترط هذا الشرط الفاسد لا يخلو من أن يكون عالمًا بفساده، وفي هذه الحال لا حق له؛ لكونه دخل العقد عالمًا بعدم صحة هذا الشرطينظر: مجموع الفتاوى (29/339).، أو أن يكون جاهلًا بفساد هذا الشرط، وفي هذه الحال لا يضيع حقه، فإن أهل العلم القائلين بصحة البيع مع بطلان الشرط مختلفون في هذه الحال على قولين:
القول الأول: أن لمن فات غرضه بسبب إلغاء الشرط الفاسد الفسخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا القول: ((هذا هو ظاهر المذهب)) ينظر: مجموع الفتاوى (29/340)، العقود لابن تيمية ص (218). ، أي مذهب الحنابلة، واختاره.
القول الثاني: أن لمن فات غرضه الفسخ، أو أرش ما نقص من الثمن بإلغاء الشرط الفاسد.
وهذا هو المذهب عند الحنابلةينظر: المحرر في الفقه (1/314)، الإنصاف (4/351)، منتهى الإرادات (1/354)، التوضيح للشويكي (2/607). .
وعلى كلا القولين فإن الجهالة في الثمن مرتفعة؛ لأنه على القول الأول يكون من فات غرضه بإلغاء الشرط مخيرًا بين الفسخ، وبين إمضاء العقد بدون
الشرط، فيكون الثمن كله عوضًا عن السلعة. وأما على القول الثاني فيكون قسط الشرط الفاسد من الثمن معلومًا.
أما بالنسبة للراجح من هذين القولين- على القول بصحة البيع دون الشرط- فالذي يظهر أن القول بأن لمن فات غرضه بإلغاء الشرط الفسخ أقرب للصواب، وذلك أن من فات غرضه لم يرض بهذا العقد إلا بالشرط، فلا يلزم البيع بدونه، بل له الخيار، وإن تراضى العاقدان بالأرش، فذلك جائز، لكن لا يلزم به واحد منهما إلا برضاه؛ لأنه معاوضة عن الجزء الفائت، فلا بد من التراضيينظر: مجموع الفتاوى (29/340 - 341). .
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه على القول بفساد الشرط أن البيع صحيح؛ لقوة أدلته، وانفكاكها عن المناقشات، وضعف أدلة القائلين بإبطال البيع أو إفساده، والله تعالى أعلم بالصواب.
التخريج الثاني: أن هذه الصورة من صور الرد الترغيبي بيع شُرِط فيه الخيار للمشتري في المبيع فقط، فله أن يستبدل غيره به، ويكون ثمنه ثمنًا في معاوضة جديدة.
وهذا التخريج لا يختلف كثيرًا عن التخريج السابق من حيث ما يترتب عليه.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بما يلي:
1- أن الاختيار في هذه الصورة بين إمساك المبيع وتبديله، في حين أن الاختيار في خيار الشرط بين إمضاء العقد وفسخه.
2- أن العقد في هذه الصورة عقد لازم، في حين أنه جائز في خيار الشرط لمن كان الخيار له.
الإجابة:
يجاب عن هذا بأن إعطاء المشتري الخيار في المبيع موافق في المعنى لمقصود خيار الشرط؛ لأنه لما كان مقصود خيار الشرط الحاجة إلى التروي في إمضاء العقد أو فسخه، فهذه الصورة توافقه من حيث الحاجة إلى إمساك المبيع أو تبديله، لاسيما في هذه الأزمان التي لا يمكّن فيها أكثر التجار المشترين من اشتراط الخيار مع شدة الحاجة إليه في كثير من السلع؛ لتنوعها واختلافها، وشدة الحاجة إلى التروي فيها. ولشدة التقارب بين هذه الصورة وخيار الشرط جعل فقهاء الحنفية قول المشتري في عقد البيع: على أني بالخيار في المبيع كقوله: على أني بالخيارينظر: الفتاوى الهندية (3/40). أي: خيار الشرط.
التخريج الثالث: أن هذه الصورة من الرد الترغيبي هي ما يسميه فقهاء الحنفية (خيار التعيين) ينظر: بدائع الصنائع (5/156)، شرح فتح القدير (6/325)، تبيين الحقائق (4/21). ، ويسميه فقهاء المالكية (بيع الاختيار) ينظر: المقدمات والممهدات (2/92)، الخرشي على مختصر خليل (5/123). ، وهو بيع يشترط فيه المشتري تأخير تعيين المبيع من بين عدة أشياء محددة في العقد مدة معلومةينظر: ملتقى الأبحر (2/11)، الفتاوى الهندية (3/54)، الذخيرة للقرافي (5/48- 49)، الشرح الكبير للدردير (3/106)، الخيار وأثره في العقود ص (579 - 580)..
ومثاله أن يقول البائع للمشتري: بعتك ما تختاره من هذه الأثواب الثلاثة بكذا، ونحو ذلك ينظر: ملتقى الأبحر (2/11)، الفتاوى الهندية (3/54)، الذخيرة للقرافي (5/48- 49)، الشرح الكبير للدردير (3/106)، الخيار وأثره في العقود ص (579 - 580)..
ما يترتب على هذا التخريج:
أبرز ما ينبني على هذا التخريج هو الاختلاف في جواز هذه الصورة، فأهل العلم- رحمهم الله- مختلفون في هذا النوع من الخيار على قولين:
القول الأول: تحريم خيار التعيين.
وهذا قول زُفَر من الحنفيةينظر: المبسوط للسرخسي (13/55)، شرح فتح القدير (6/325)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (2/31). ، ومذهب الشافعيةينظر: العزيز شرح الوجيز (4/41)، شرح المحلي على منهاج الطالبين (3/161)، حاشية الشرقاوي (2/20) والحنابلةينظر: الكافي لابن قدامة (2/11)، الممتع شرح المقنع (3/38)، منتهى الإرادات (1/343)، الإنصاف (4/302). .
القول الثاني: جواز خيار التعيين من حيث الأصل.
وهذا هو المذهب عند الحنفيةينظر: بدائع الصنائع (5/156)، شرح فتح القدير (6/325). ، والمالكيةينظر: المدونة الكبرى (9/190)، الكافي لابن عبد البر ص (344)، مواهب الجليل (4/424). ، وحكي قولًا قديمًا عن الشافعيينظر: المجموع شرح المهذب (9/287). وهو قول لبعض الحنابلةينظر: الفروع (4/26)، الإنصاف (4/302). .
أدلة القول الأول:
الأول: أن خيار التعيين يفضي إلى الغرر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكون المبيع مجهولًاينظر: المبسوط للسرخسي (13/55)، العزيز شرح الوجيز (4/41 -42)، الممتع شرح المقنع (3/38). .
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بالمنع؛ لأن البيع قد انعقد موجبًا للملك عند اختيار المشتري، والمعقود عليه في تلك الحال لا يكون مجهولًا؛ بل هو معلومينظر: بدائع الصنائع (5/157)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (2/31). .
الإجابة:
يجاب عن هذا بأن كون المبيع يعلم فيما بعدُ لا يخرجه عن بيع الغرر؛ إذ إن المبيع، وإن كان معلوم الجنس، إلا أنه مجهول العين مبهم، وتعيينه فيما بعد لا يرفع الجهالة التي تؤثر فساد العقد.
الثاني: أن الأمور المخيّر بينها مختلفة، وهذا الاختلاف يفضي إلى المنازعةينظر: المبسوط للسرخسي (13/55)، الكافي لابن قدامة (2/11)، المبدع (4/30). .
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن تعيين المبيع يحصل باختيار المشتري، فلا تقع المنازعةينظر: بدائع الصنائع (5/157). .
الإجابة:
أجيب بأن المبيع واحد من أشياء متعددة متفاوتة في نفسها، وجهالة المبيع فيما يتفاوت تمنع صحة العقدينظر: المبسوط للسرخسي (13/55)..
ويجاب أيضا بأن كون التعيين من المشتري لا يرفع التنازع؛ لأن المشتري قد يعيّن ما يرى أنه دون الثمن الذي دفعه، فيطالب البائع بالفرق، وكذلك البائع قد يرى أن أخذ المشتري لما عيّنه ظلم له؛ لكون ثمنه أعلى مما بذله المشتري، فهذه جهالة تفضي إلى التنازع بلا ريب.
أدلة القول الثاني:
سلك أصحاب هذا القول مسلكين في الاستدلال لما ذهبوا إليه.
المسلك الأول: طريقة الحنفية:
وهو الاستدلال لجواز خيار التعيين بالقياس على خيار الشرط، بجامع أن بهما يحصل دفع الغبن بمشاورة من يوثق برأيه، أو اختيار من يُشترى لأجلهينظر: بدائع الصنائع (5/157)، المبسوط للسرخسي (13/55)، البناية في شرح الهداية (7/107). .
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال بأنه قياس مع الفارق، فالبيع الذي فيه خيار الشرط عقد غير لازم في مدة الخيار، وأما خيار التعيين فالعقد لازم، وإنما الخيار في تعيين المبيع.
المسلك الثاني: طريقة المالكية:
وهو إدراج هذا النوع من الخيار في خيار الشرط، فالأدلة التي تدل على صحة خيار الشرط تدل على صحة خيار التعيينينظر: المقدمات والممهدات (2/99)، الذخيرة للقرافي (5/48 - 49)، مواهب الجليل (4/424). .
المناقشة:
يناقش هذا بأن الاستدلال على خيار التعيين بخيار الشرط يصدق عليه أن الدعوى أعم من الدليل، فأدلة جواز خيار الشرط تدل على جواز اشتراط إمضاء العقد أو فسخه في العقد، وذلك لا يفضي إلى غرر ولا نزاع؛ أما خيار التعيين فالعقد فيه عقد لازم، وهو متضمن للغرر المفضي إلى التنازع.
الترجيح:
بعد هذا العرض للخلاف في خيار التعيين، وما احتج به كل فريق، يظهر للباحث أن القول بمنع هذا النوع من الخيار وعدم صحته أقرب إلى الصواب؛ لقوة أدلته، وانفكاكها من المناقشات، والله تعالى أعلم.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بثلاثة أمور:
1- أن المبيع في خيار التعيين مبهم غير معين، وأما المبيع في هذه الصورة فمعلوم معين لا إبهام فيه، وإنما يكون مخيرًا في أخذ ما شاء من السلع التي يتّجر بها البائع فيما إذا اختار المشتري رد السلعة وتبديلها.
2- أن أبرز القائلين بهذا النوع من الخيار- وهم الحنفية- لا يجوز عندهم أن يكون خيار التعيين في أكثر من ثلاثة أشياء؛ لاقتصار كل نوع من السلع على ثلاثة أوصاف: جيد، ووسط، ورديءينظر: بدائع الصنائع (5/157)، تبيين الحقائق (4/21). . وأما المالكية فلم أقف فيما اطلعت عليه من كتبهم على تحديد لعدد الأشياء المختار بينها، إلا أنهم عند ذكرهم المسألة والتمثيل لها لا يتجاوز العدد الذي فيه الخيار ثلاثة أشياءينظر: مواهب الجليل (4/423 - 424)، التاج والإكليل (4/424). . وبهذا يتبين مفارقة هذا النوع من الرد الترغيبي لخيار التعيين، فالاختيار في خيار التعيين محدود بعدد معين، بخلاف هذا النوع من الرد الترغيبي، فليس الاختيار فيه محصورًا بعدد. أما على القول المحكي عن الشافعيينظر: المجموع شرح المهذب (9/286 - 287). ، وقول بعض الحنابلةينظر: الفروع (4/26). فلا اختلاف؛ لأنهم لا يحدون الاختيار بعدد معين، فيجوز عندهم بيع ثوب من أثواب.
3- أن القائلين بجواز خيار التعيين إنما يجيزونه فيما إذا كان الاختيار في صنف واحد من السلعينظر: المبسوط للسرخسي (13/55)، المقدمات والممهدات (2/93)، المجموع شرح المهذب (2/286)، الفروع (4/26). ، في حين أن الاختيار في هذا النوع من الرد الترغيبي في أصناف عديدة مختلفة.
وبهذه الأوجه يتبين عدم صحة هذا التخريج، والله أعلم.
الترجيح بين التخريجات:
الذي يظهر أن التخريج الأول أقرب للصواب؛ لسلامته من الاعتراضات والمناقشات، والله أعلم بالصواب.
الفرع الثالث: حكمها:
اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي بناءً على اختلافهم في صحة هذا الشرط على قولين:
الأول: جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي، وبهذا أفتى شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين، والأستاذ الدكتور نصر فريد مفتي جمهورية مصر العربية.
الثاني: عدم جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية.
وقد تقدم ذكر أدلة القولين في التخريج الأول، والظاهر أن القول الأول أقرب القولين للصواب، والله أعلم.