المسألة الثانية: المدة الزمنية لهذه الصورة من الرد الترغيبي:
الفرع الأول: حكم زيادة المدة على ثلاثة أيام:
اتفق أهل العلم على جواز اشتراط الخيار في المبيع ثلاثة أيامحكى هذا الاتفاق: الطبري في اختلاف الفقهاء ص (63)، وابن حزم في مراتب الإجماع ص (86)، والنووي في المجموع شرح المهذب (9/203). ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها راجعة إلى تقدير المتعاقدين، فما اتفقا عليه من المدة المعلومة جاز، وإن طالت.
وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، ووجه عند الشافعيةينظر: المجموع شرح المهذب (9/190).، وهو مذهب الحنابلةينظر: المقنع لابن قدامة ص (103)، الإقناع للحجاوي (2/85)، منتهى الإرادات (1/357)، بلغة الساغب ص (182)..
القول الثاني: أنها لا تحد بثلاثة أيام، بل تقدر بقدر ما يحتاج إليه في الاختيار، وذلك يختلف باختلاف المبيعات، ففي الدور والأراضي شهر ونحوه، وفي الدواب والثياب ثلاثة أيام، وفي الفواكه ساعة.
وهذا هو المذهب عن المالكيةينظر: التلقين للقاضي عبد الوهاب (2/364)، المقدمات والممهدات (2/88)، القوانين الفقهية ص (180). .
القول الثالث: لا يجوز أن تكون مدة الخيار أكثر من ثلاثة أيام.
وهذا مذهب الحنفيةينظر: كتاب الأصل (5/117 - 118)، المبسوط للسرخسي (13/41)، بدائع الصنائع (5/174)، ملتقى الأبحر (2/10). ، والشافعيةينظر: المهذب (3/14)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/260)، زاد المحتاج (2/51). .
أدلة القول الأول:
الأول: قول الله- تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ سورة المائدة، جزء آية: (1). .
وجه الدلالة:
أن الله- تعالى- أمر بالوفاء بالعقود، وهذا يشمل الوفاء بأصل العقد ووصفه، فيجب الوفاء بما عقده وارتبط به والتزم به، وبكل ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع أو شرط ونحو ذلكينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/527)، المحرر الوجيز لابن عطية (5/7)، القواعد النورانية ص (251)، الروض النضير للحيمي (3/241)، تفسير المنار (6/121 - 122). ، فدلّ ذلك على أن الأصل في الشروط الحلّ، فلا مانع من أن تكون مدة الخيار طويلة معلومة إذا اتفق عليها العاقدانينظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (3/402)، المبدع (4/67)، مجموع الفتاوى (29/346). .
الثاني: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبر أن المسلمين ثابتون على شروطهم ملتزمون بها، لا يرجعون عنها إذا لم تحلّ حرامًا أو تحرم حلالًاتحفة الأحوذي (4/584). ، ويتأكد هذا المعنى بالرواية الأخرى «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» رواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الأحكام- باب ما ذكر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصلح بين الناس -، رقم (1352)، (3/626)، من حديث عمرو بن عوف- رضي الله عنه -. وروى البخاري أوله معلقًا بصيغة الجزم في كتاب الإجارة- باب أجر السمسرة- (2/135) بلفظ: "المسلمون عند شروطهم"، وأبو داود موصولًا في كتاب الأقضية- باب في الصلح -، رقم (3594)، (4/20)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -. وقال الترمذي (3/626) عن رواية عمرو بن عوف- رضي الله عنه-: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/147) معلقًا على كلام الترمذي: "فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه"، ثم قال بعد ذكر بعض أسانيد هذا الحديث: "هذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا". وقال ابن حجر معلقًا على كلام الترمذي في بلوغ المرام (291): "وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه من حديث أبي هريرة"، وقال في تغليق التعليق (3/281): "حديث: (المسلمون عند شروطهم) روي من حديث أبي هريرة، وعمرو بن عوف، وأنس بن مالك، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكلها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها". وقال عنه ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/103) معلقًا على كلام الترمذي: "قد روي من طرق عديدة، ومقتضى القرآن وإجماع الأمة على لفظه ومعناه"، وقد صححه السخاوي في المقاصد الحسنة ص (386)، فقال مُعَلِّقًا على إخراج البخاري له مُعَلَّقًا: "فهو صحيح على ما تقرر في علوم الحديث".، أي: ((إنما تظهر حقيقة إيمانهم عند الوفاء بشروطهم)) أحكام القرآن لابن العربي (2/527).، فدل ذلك على جواز كون مدة الخيار ترجع إلى ما يتفق عليه العاقدان، وإن طالتينظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (3/402)، كشاف القناع (3/202)، معونة أولي النهى (4/111)..
الثالث: ما روي عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه باع جارية، وجعل الخيار إلى شهرينلم أجد هذا الأثر في شيء من كتب الآثار التي وقفت عليها، كما أن كل من ذكره لم يعزه، فذكره السرخسي في المبسوط (13/41) عن عمر- رضي الله عنه -، وقال عنه الزيلعي في نصب الراية (4/8): "غريب جدًّا"، وكذا قال العيني في البناية في شرح الهداية (7/77)، ثم قال: "والعجب من الأكمل أنه قال: ولهما حديث ابن عمر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أجاز الخيار شهرين، ونفس إسناده إلى ابن عمر لم يصح، فكيف يرفع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم .
المناقشة:
نوقش استدلالهم هذا بأمور:
1-ضعف هذا الأثر، وعدم ثبوته، كما هو مبين في تخريجه.
2- أن ما ذكر في الأثر من جعل الخيار للمشتري إلى شهرين لم يكن على وجه الشرط، بل كان وعدًا بالإقالة إلى شهرين، فلا دليل فيهينظر: إعلاء السنن (14/42). .
3- أن الخيار المشترط إلى شهرين يحتمل أن يكون خيار الرؤية، أو خيار العيبينظر: تبيين الحقائق (4/14-15). .
الرابع: أن مدة الخيار حق مقدَّر يعتمد على الشرط، فيرجع في تقديره إلى من شرطه، كالأجلينظر: شرح فتح القدير (6/299)، الممتع في شرح المقنع (3/76)، كشاف القناع (3/202). .
الخامس: أن مدة خيار الشرط مدة ملحقة بالعقد، فجاز ما اتفقا عليه، كالأجلينظر: شرح فتح القدير (6/299)، المغني (6/39)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (3/402)، المبدع (4/67). .
السادس: أنه تجوز الزيادة على ثلاثة الأيام في خيار الشرط، قياسًا على خيار العيب والرؤيةينظر: المبسوط للسرخسي (13/41). .
السابع: أن الإجماع قد انعقد على جواز اشتراط الخيار في ثلاثةحكى هذا الإجماع: الطبري في اختلاف الفقهاء ص (63). أيام، فما تراضى عليه المتعاقدان من المدة حكمه حكم ثلاثة الأيام إلا أن يدل الدليل على المنع، ولا دليل يعتمد هنا.
أدلة القول الثاني:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أثبت الخيار للمتعاقدين؛ لتأمل المبيع واختياره والمشورة فيه؛ فإذا كان كذلك وجب أن يكون ذلك محدودًا بقدر ما يختبر فيه المبيع، ويرتأى فيه ويستشار، وذلك يختلف باختلاف المبيعات والسلعينظر: المقدمات والممهدات (2/87)، المعونة للقاضي عبد الوهاب (2/1045)، الذخيرة للقرافي (5/25). .
المناقشة:
نوقش قولهم هذا بأن تقدير مدة الخيار غير منضبط؛ لأن الحاجة خفيّة مختلفة، فلا يصح ربط الحكم بهاينظر: الشرح الكبير لابن قدامة (11/285)، المبدع (4/67). .
ويناقش أيضًا بأن ربط مدة الخيار بالحاجة مثار نزاع بين المتعاقدين؛ لكونها غير منضبطة.
أدلة القول الثالث:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي كان يخدع في البيوع: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْ» رواه البيهقي في كتاب البيوع- باب الدليل على أن لا يجوز الخيار في البيع أكثر من ثلاثة أيام- (5/273)، والحاكم في كتاب البيوع (2/22)، والدارقطني في كتاب البيوع، رقم (220)، (3/55 - 56)، من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-. وقال النووي في المجموع شرح المهذب (9/190): "رواه البيهقي بهذا اللفظ بإسناد حسن"، وقال الذهبي في التلخيص (2/22): "صحيح". ورواه ابن ماجه مرسلًا عن محمد بن يحيى بن حَبان في كتاب الأحكام- باب الحجر على من يفسد ماله-، رقم (2355)، (2/789)، قال عنه النووي في المجموع شرح المهذب (9/190): "ورواه ابن ماجه بإسناد حسن"، بينما قال في شرح مسلم (10/177) عن رواية أنه جعل له الخيار ثلاثة أيام: "ليست بثابتة"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/6) بعد ذكر رواية ابن ماجه: "وهو مرسل جيد"، وقال في مصباح الزجاجة عن رواية ابن ماجه (2/226): "هذا إسناده ضعيف لتدليس ابن إسحاق"، إلا أن هذه العلة مندفعة، فإن ابن إسحاق قد صرّح بالسماع في بعض الروايات، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/21) معلقًا على لفظ البخاري الذي رواه في تاريخه: "وصرح بسماع ابن إسحاق"، وقد قال النووي في المجموع شرح المهذب (9/190): "رواه البخاري في ترجمة منقذ بن عمرو بإسناد صحيح إلى محمد بن إسحاق"، وقال عنه العيني في عمدة القاري (11/235): "وروى ابن ماجه بسند جيد حسن.."وذكر الحديث..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل له الخيار ثلاثة أيام، فلا يزاد عليهينظر: شرح فتح القدير (6/301)، بدائع الصنائع (5/174)، تبيين الحقائق (4/14)، مغني المحتاج (2/47)، شرح المحلي على منهاج الطالبين (2/193)، كفاية الأخيار (1/478). ؛ لأن ((التقدير الشرعي إما أن يكون لمنع الزيادة والنقصان، فاشتراط الخيار دون ثلاثة أيام يجوز، فعرفنا أنه لمنع الزيادة؛ إذ لو لم تمنع الزيادة لم يبق لهذا التقدير فائدة، وما نص عليه صاحب الشرع من التقدير لا يجوز إخلاؤه عن الفائدة)) ينظر: المبسوط للسرخسي (13/41).
المناقشة:
نوقش استدلالهم بأربعة أمور:
1- أنه ليس في الحديث منع من الزيادة على ثلاثة أيام بوجه من الوجوه، فلم يمنع النبي- صلى الله عليه وسلم- من الزيادة على ثلاثة أيام، ولم يجعلها حدًّا فاصلًا بين ما يجوز من المدة وما لا يجوزينظر: إعلام الموقعين (4/22). .
2- ظاهر الحديث أن ثلاثة أيام ثابتة لهذا الرجل، سواء اشترطها أو لم يشترطها؛ لأنه كان يخدع في البيع، فجعل له النبي- صلى الله عليه وسلم- هذه المدة بمجرد العقدينظر: إعلام الموقعين (4/22). .
3- ظاهر الحديث أن ثلاثة أيام ثابتة لهذا الرجل إذا قال: لا خلابة، سواء رضي معامله أم لم يرضَينظر: المحلى (8/376). .
تحديد الخيار بثلاثة أيام في هذا الحديث خاص بهذا الرجل، أو بمن كان بصفتهينظر: عارضة الأحوذي (6/8)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/342)، المبدع (4/67). ، ويؤيد التخصيص أن هذا الرجل أدرك زمن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- حين فشا الناس وكثروا، وكان يتبايع البيِّع في السوق، ويرجع إلى أهله، وقد غبن غبنًا قبيحًا، فيرجع به على من باعه، فيقول البائع: والله لا أقبلها، فيشهد له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثًا، فيرد له البائع دراهمهرواه البيهقي في كتاب البيوع- باب في تفسير البيع بالخيار-، (5/273- 274)، والدارقطني في كتاب البيوع، رقم (220)، (3/55-56)..
الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعدُ فإنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمسَكَ، وإنْ شاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب البيوع - باب إن شاء رد المصراة-، رقم (2148)، (2/102)، ومسلم في كتاب البيوع- باب حكم بيع المصراة-، رقم (1524)، (3/1158)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- شرط في المصراة الخيار ثلاثة أيام بعد البيع، فلا يزاد على ما حدّه النبي- صلى الله عليه وسلم- ينظر: الأم للشافعي (3/68)، معرفة السنن والآثار (8/25)، الاستذكار (20/251)، التمهيد لابن عبد البر (14/29)..
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال بأن الرد في المصراة ليس سببه خيار الشرط، بل سببه التدليس والخداعينظر: شرح السنة للبغوي (8/167)، مجموع الفتاوى (28/73). ، فللمشتري الخيار في الرد، سواء اشترط الخيار أم لم يشترطه، ثم إن التقدير بالثلاثة هنا تقدير من الشارع لمعرفة التصرية، فإنها لا تعرف قبل مضيها غالبًاينظر: المبسوط للسرخسي (13/39)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/339)، فتح الباري (4/363)، المغني (6/221). .
الثالث: ما روي عن أنس- رضي الله عنه- أن رجلًا اشترى من رجل بعيرًا، وشرط الخيار أربعة أيام، فأبطل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيع، وقال: «الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» رواه ابن حزم في المحلى (8/372)، وقد عزاه عبد الحق في الأحكام الوسطى (3/266) إلى عبد الرزاق، وقال: "أبان لا يحتج أحد بحديثه"، وكذا صنع ابن حجر في التلخيص الحبير (3/21)، والدراية في تخريج أحاديث الهداية (3/148)، وقال عنه: "وفي إسناده أبان، وهو متروك"، وعزاه إليه أيضًا الزيلعي في نصب الراية (4/8). وقد بحثت عن الحديث في المصنف كثيرًا فلم أجده، قال محقق الأحكام الوسطى لعبد الحق (3/266) في تعليقه على عزو عبد الحق الحديث لعبد الرزاق: "لم أره في المصنف لعبد الرزاق بعد البحث الشديد"، وقد ضعّفه ابن حزم في المحلى (8/372)..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أبطل بيع من اشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، فدل على عدم جوازهينظر: شرح فتح القدير (6/301)، إعلاء السنن (14/43)، مغني المحتاج (2/47)، حاشية الشرقاوي (2/41). .
المناقشة:
نوقش هذا الدليل بأنه ضعيف لا تقوم به حجةينظر: شرح فتح القدير (6/301).، كما هو مبيّن في تخريجه.
الرابع: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» رواه البيهقي في كتاب البيوع- باب الدليل على أن لا يجوز شرط الخيار في البيع أكثر من ثلاثة أيام- (5/274)، والدارقطني في كتاب البيوع، رقم (221)، (3/56) من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-. قال عنه الحافظ ابن حجر في الدراية تخريج أحاديث الهداية (2/148): "وإسناده واه"، وقال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر الحديث بسنده (4/8): "وأحمد بن عبد الله بن ميسرة إن كان هو الحراني الغنوي فهو متروك"، وقال ابن الهمام في شرح فتح القدير بعد ذكر الحديث (6/302): "وفيه أحمد بن ميسرة، متروك"، وقد ضعّف الألباني الحديث في ضعيف الجامع رقم (2949)، (3/146).
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حدّ الخيار بثلاثة أيام، فلا يصح الزيادة على ذلكينظر: المبسوط للسرخسي (13/41)، إعلاء السنن (14/43). .
المناقشة:
يناقش هذا بأنه ضعيف، فلا يحتج بهينظر: شرح فتح القدير (6/302). ، وقد بينت ذلك عند تخريجه.
الخامس: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر.
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر، واشتراط الخيار في البيع نوع من الغرر، وبزيادة المدة يزداد الغرر، فجاز ما ورد به النص، وهو ثلاثة أيام، ومنع ما زاد؛ لئلا يتمكن الغررينظر: المبسوط للسرخسي (13/41)..
المناقشة:
نوقش هذا بأن اشتراط الخيار ليس من الغرر في شيء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ذلك: ((فأما كون العقد جائزًا يجوز أن يلزم إن وجد شرط لزومه، ويجوز أن لا يلزم، أو كونه يجوز أن ينعقد إن شرط انعقاده، ويجوز ألا ينعقد، فليس هذا مما دخل في نهيه صلى الله عليه وسلم))-- العقود لابن تيمية ص (228). أي: عن الغرر، ثم قال: ((وليس هذا من القمار؛ لأن العقد إن حصل أو لزم، حصل المقصود بحصوله ولزومه، وإن لم يحصل، أو لم يلزم لم يحصل المقصود بحصوله ولزومه، فعلى التقديرين لا يكون أحد المتعاقدين قد أكل مال الآخر بالباطل أصلًا، ولا قمر أحدهما الآخر)) رواه البيهقي في كتاب البيوع- باب الدليل على أن لا يجوز شرط الخيار في البيع أكثر من ثلاثة أيام- (5/274)، والدارقطني في كتاب البيوع، رقم (216)، (3/54)، وقد عزاه في نصب الراية (4/8) للطبراني في المعجم الأوسط، وقد بحثت عنه فيه فلم أجده. ونقل عن الطبراني أنه قال عنه: "لا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة". وقد أعله بذلك البيهقي عند إخراجه له في سننه (5/274)، وكذا ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/9)، وكذا الحافظ في التلخيص الحبير (3/21)، وفتح الباري (4/338)..
السادس: قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: ((ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحبان بن منقذ، إنه كان ضرير البصر، فجعل له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عهدة ثلاثة أيام، إن رضي أخذ، وإن سخط ترك)) ينظر: المبسوط للسرخسي (13/41)..
وجه الدلالة:
أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فهم من جعل النبي- صلى الله عليه وسلم- الخيار ثلاثة أيام لحبان بن منقذ أنه لا تجوز الزيادة عليها، حيث جعله أوسع شيء في البابينظر: سنن البيهقي (5/274)، إعلاء السنن (14/45)..
المناقشة:
نوقش هذا بأنه لم يثبت فلا يحتج بهينظر: المغني (6/39)..
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال هو القول الأول، وهو إجازة الخيار إلى أي مدة اشترطها العاقد، بشرط أن تكون معلومة، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من المناقشات، ولأن الأصل في المعاملات الحل ما لم يرد دليل المنع، والله أعلم.
الفرع الثاني: حكم تأبيد مدة الرد أو تعليقها بالمشيئة
من وسائل الترغيب والتحفيز على الشراء التي يستعملها بعض التجار، لاسيما الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى، إعطاء المشتري حق فسخ العقد بإرجاع السلعة المعقود عليها، وأخذ الثمن مدة مؤبدة أو مجهولة، كتعليقها على المشيئة ونحو ذلك.
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم الجواز.
وهو مذهب الحنفيةينظر: الدر المختار (4/568)، بدائع الصنائع (5/157، 178، 174)، الفتاوى الهندية (3/38). ، والمالكية ينظر: مختصر خليل ص (164)، الذخيرة للقرافي (5/27)، القوانين الفقهية ص (180). ، والشافعيةينظر: العزيز شرح الوجيز (4/190)، نهاية المحتاج (4/18)، حاشية الباجوري على ابن قاسم (1/349). ، والمذهب عند الحنابلةينظر: المقنع لابن قدامة ص (103)، المغني (6/43)، الإقناع للحجاوي (2/85)، الإنصاف (4/373). .
القول الثاني: الجواز.
وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمدينظر: المقنع لابن قدامة ص (103)، الكافي لابن قدامة (2/35)، الإنصاف (4/373). .
أدلة القول الأول:
الأول: إجماع أهل العلموقد حكى هذا الإجماع: ابن العربي في القبس شرح الموطأ (2/845). على بطلان شرط الخيار مدة مجهولة.
المناقشة:
يناقش هذا بأن هذا الإجماع غير ثابت؛ إذ إن الخلاف في ذلك قائم، كما سبقت الإشارة إليه في حكاية الأقوال في المسألة.
الثاني: أن مدة خيار الشرط مدة ملحقة بالعقد، فلا تجوز معه الجهالة كالأجلينظر: الخرشي على مختصر خليل (5/111)، الممتع في شرح المقنع (3/77)، الكافي لابن قدامة (2/35). ؛ لأن ذلك يفضي إلى الغرر الذي لا يجوز في البيوعينظر: المقدمات والممهدات (2/89). .
الثالث: أن تأبيد مدة الخيار يقتضي المنع من التصرف في المبيع على الأبد، وهذا ينافي مقتضى عقد البيعينظر: المغني (6/43)، المبدع (4/67 - 68). .
أدلة القول الثاني:
قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» رواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الأحكام- باب ما ذكر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصلح بين الناس-، رقم (1352)، (3/626)، من حديث عمرو بن عوف- رضي الله عنه-. وروى البخاري أوله معلقًا بصيغة الجزم في كتاب الإجارة- باب أجر السمسرة- (2/135) بلفظ: "المسلمون عند شروطهم"، وأبو داود موصولًا في كتاب الأقضية- باب في الصلح-، رقم (3594)، (4/20)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-. وقال الترمذي (3/626) عن رواية عمرو بن عوف- رضي الله عنه -: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/147) معلقًا على كلام الترمذي: "فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه"، ثم قال بعد ذكر بعض أسانيد هذا الحديث: "هذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا". وقال ابن حجر معلقًا على كلام الترمذي في بلوغ المرام (291): "وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه من حديث أبي هريرة"، وقال في تغليق التعليق (3/281): "حديث: (المسلمون عند شروطهم) روي من حديث أبي هريرة، وعمرو بن عوف، وأنس بن مالك، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكلها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها". وقال عنه ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/103) معلقًا على كلام الترمذي: "قد روي من طرق عديدة، ومقتضى القرآن وإجماع الأمة على لفظه ومعناه"، وقد صححه السخاوي في المقاصد الحسنة ص (386)، فقال مُعَلِّقًا على إخراج البخاري له مُعَلَّقًا: "فهو صحيح على ما تقرر في علوم الحديث"..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أباح الشروط في العقود إلا إذا أحلّت حرامًا، أو حرمت حلالًا، وتأبيد الخيار أو تعليقه بالمشيئة لا يحلّ حرامًا ولا يحرّم حلالًاالممتع في شرح المقنع (3/77). .
المناقشة:
يناقش هذا بعدم التسليم؛ إذ إن اشتراط التأبيد في الخيار، أو جعله مجهولًا يفضي إلى الغرر، وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر، سواء كان الغرر في الثمن أو المثمن أو الأجلالمنتقى للباجي (5/41). أو نحو ذلك. فجعل الخيار مؤبدًا أو مجهولًا يدخل في قوله- صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ».
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من هذين القولين- والعلم عند الله- هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، ولأن القول بجواز تأبيد الخيار يفضي إلى تغيير حقيقة عقد البيع من كونه لازمًا إلى كونه جائزًا.
الفرع الثالث: حكم عدم تحديد المدة:
من الصور المستعملة في هذا النوع من الرد الترغيبي هو أن يشترط المشتري الخيار دون تحديد مدة زمنية معينة، وهو ما يسميه الفقهاء ((الخيار المطلق)) أي: الذي لم تذكر فيه مدة الخيار، أو لم تحددينظر: بداية المجتهد (2/209). .
وفي جواز هذه الصورة من صور الرد الترغيبي قولان في الجملة:
القول الأول: أنها لا تجوز.
وهذا هو مذهب الحنفيةينظر: الحجة على أهل المدينة (2/679 _680)، بدائع الصنائع (5/174)، شرح فتح القدير (6/300). ، والشافعيةينظر: العزيز شرح الوجيز (4/190)، روضة الطالبين (3/443)، وهو المذهب عند الحنابلةينظر: المغني (6/43)، الإقناع للحجاوي (2/85)، الإنصاف (4/373)، التوضيح للشويكي (2/611)..
القول الثاني: أنها تجوز.
وهؤلاء اختلفوا في تحديد المدة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه تحدد مدة الخيار بقدر ما يحصل به اختبار السلعة. وهذا مذهب المالكيةينظر: المدونة الكبرى (4/199)، التفريع (2/172)، بداية المجتهد (2/209)..
الثاني: أنه لا يقيد ما أطلقاه، بل هما على خيارهما أبدًا أو يقطعاه. وهذا القول هو الرواية الثانية عن أحمدينظر: المغني (6/43)، الممتع في شرح المقنع (3/77)..
الثالث: أنه يثبت لهم الخيار ثلاثًا، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميةينظر: الاختيارات الفقهية ص (74). .
أدلة القولين:
استدل أصحاب القولين في هذه المسألة بنفس أدلة المختلفين في حكم الجهالة في مدة الخيار أو تأبيدها، إلا أن المالكية لما كان قولهم هنا مخالفًا لقولهم في تلك المسألة فإنهم عللوا اختيارهم الجواز في هذه المسألة بأن الحد الذي تُختبر فيه السلعة المبيعة يُرجع في تحديده إلى العرف، قالوا: فإذا أخل العاقدان بذكر مدة الخيار فإنهما يكونان قد دخلا على العرف والعادةينظر: المقدمات والممهدات (2/85)، المعونة للقاضي عبد الوهاب (2/1048)، عقد الجواهر الثمينة (2/459)، المنتقى للباجي (5/75). .
المناقشة:
نوقش تعليل المالكية بأن الرد إلى العادة لا يصح في مثل هذا؛ لأنه يفضي إلى التنازع، وبأنه لا عادة في الخيار يرجع إليهاينظر: المغني (6/43). .
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة- والله أعلم- أنه لا يجوز اشتراط الخيار المطلق؛ لِما يُفضِي إليه من الجهالة والغرر والنزاع.