المطلب الثاني: حكمهما والأثر المترتب عليهما:
[بعد تبين حقيقة هذين النوعين من الإعلانات والدعايات يتضح أنهما محرمان؛ لما فيهما من الكذب والغش والتدليس، وقد تقدمت أدلة ذلكينظر: الإعلان عن المنتجات والخدمات من الوجهة القانونية. ].
وقد اختلف أهل العلم في الأثر المترتب على الكذب والخداع والتدليس في البيع على قولين:
القول الأول: أن للمشتري الخيار في إمضاء العقد أو فسخه إذا دلس عليه البائع أو كذب.
وهذا قول بعض الحنفيةينظر: حاشية ابن عابدين (5/44)، إعلاء السنن (14/84). ، وهو مذهب المالكيةينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/477). ، والشافعيةينظر: حاشية قليوبي وعميرة (2/209-210). ، والحنابلةينظر: المحرر في الفقه (1/328)، الإقناع للحجاوي (2/95). ، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (9/64). .
القول الثاني: أنه ليس للمشتري الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، وإن دُلس عليه أو كُذب أو خُدع، ما لم يشترط عدم ذلك.
وهذا مذهب الحنفيةينظر: المبسوط للسرخسي (13/38)، عمدة القاري (11/273)، إعلاء السنن (14/61-70)..
أدلة القول الأول:
الأول: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ سورة النساء، جزء آية: (29). .
وجه الدلالة:
أن الله- جلَّ وعلا- اشترط لحل أكل المال بالتجارات التراضي من المتعاقدين، ومعلوم أن من غُشَّ أو دلس عليه أو خُدِع، وهو غير عالم بذلك لن يرضى، فلا يلزم بما لم يرض، بل له الخيارالخيار: اسم من الاختيار، وهو طلب خير الأمرين: إما إمضاء البيع أو فسخه. وقيل: هو حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه؛ لظهور مسوّغ شرعي، أو بمقتضى اتفاق عقدي. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (خير)، (2/91)، الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (2/440)، الموسوعة الفقهية الكويتية (20/41) ]. في إمضاء العقد أو فسخهينظر: بدائع الصنائع (5/274)، بداية المجتهد (2/173)، مجموع الفتاوى (28/104)، (15/127)، المحلى (8/440-441)..
الثاني: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعدُ فإنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمسَكَ، وإنْ شاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب البيوع - باب إن شاء رد المصراة-، رقم (2148)، (2/102)، ومسلم في كتاب البيوع- باب حكم بيع المصراة -، رقم (1524)، (3/1158)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أثبت الخيار لمن غرّ بالتصرية، فدل ذلك على ثبوت الخيار لكل من خُدع أو دُلس عليه أو غُشَّ أو غُرِّرَ بالفعل أو القول، فهذا الحديث أصل في النهي عن جميع صور الغش والتدليس، وإثبات الخيار لمن دُلِّس عليه أو غُشَّ في شيء من البياعاتينظر: شرح السنة للبغوي (8/168)، بدائع الصنائع (8/68)، بداية المجتهد (2/175)، التمهيد لابن عبد البر (18/209، 205)، الحاوي الكبير (5/270، 237)، مغني المحتاج (2/64)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/349)، مجموع الفتاوى (28/73). .
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بمناقشات عديدة ترجع إلى أمرين:
الأول: ضعف الحديث؛ لما فيه من الاضطراب، ففي بعض رواياته: «وَصَاعَ تَمْرٍ»، وفي بعضها: «وصاعًا مِن طَعامٍ لَا سَمْرَاء» رواه مسلم في كتاب البيوع- باب حكم بيع المصراة -، رقم (1254- 25)، (3/1158). ، وفي بعضها: «صَاعًا مِن تَمرٍ، لا سَمْرَاء)) رواه مسلم رقم (1524 - 26)، (3/1158). ، وغير ذلك من الاختلافينظر: فتح الباري (4/364)، إعلاء السنن (14/61). .
الثاني: مخالفته للأصول من عدة وجوهينظر: حاشية ابن عابدين (5/44)، إعلاء السنن (14/64 - 65). ، أبرزها ما يلي:
الوجه الأول: مخالفته لما تقتضيه الأصول الكلية في باب التضمين والتغريم، وهي أن الجزاء إنما يكون بالمثل، وهنا لم يوجبه مع إمكانهينظر: حاشية ابن عابدين (5/44)، إعلاء السنن (14/64 - 65). .
الوجه الثاني: مخالفته لما تقتضيه القواعد من كون الضمان مقدرًا بقدر الإتلاف، والحديث جعل القدر واحدًا، وهو الصاع، لا يزيد بزيادة اللبن، ولا ينقص بنقصانه، وهذا مخالف للأصولينظر: إعلاء السنن (14/64). .
الوجه الثالث: أنه لما عدل عن المثل، وأخذ بالقيمة جعل القيمة تمرًا أو طعامًا، والقاعدة أن القيمة إنما تكون ذهبًا أو فضة.
الوجه الرابع: أنه جعل الخيار فيه ثلاثًا، مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاثينظر: عمدة القاري (11/274)، إعلاء السنن (14/64). .
الإجابة:
وأجيب على هذه المناقشات بما يلي:
أولًا: أن الحديث ثابت في الصحيحين، وما ذكر من اضطراب فليس مؤثرًا؛ إذ يمكن الجمع، فإن تعذر فيصار إلى الترجيح بينها، والعمل بالراجح منهاينظر: فتح الباري (4/364). .
ثانيًا: ما ذكر من كون الحديث مخالفًا للأصول يجاب عنه من طريقين:
الأولى: على التسليم بأن الحديث مخالف للأصول، فإن ذلك لا يوجب رد الحديث؛ إذ إن الحديث إذا ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فإنه يكون أصلًا بنفسهينظر: بداية المجتهد (2/175)، الحاوي الكبير (5/238)، إعلام الموقعين (2/19). .
الثانية: عدم التسليم بأن الحديث مخالف للأصول، بل هو موافق لقواعد الشريعة وأصولهاينظر: الحاوي الكبير (5/239)، إعلام الموقعين (2/19 - 20)، فقد فصّلا في بيان موافقة الحديث لأصول وقواعد الشريعة. .
الثالث: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَالجَلَب: فَعَل بمعنى مفعول، وهو ما يجلب للبيع من كل شيء. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (جلب)، (1/282)، المصباح المنير، مادة (جلب)، ص (58) ].، فَمَنْ تَلَقَّى فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ» رواه مسلم في كتاب البيوع- باب تحريم تلقي الجلب -، رقم (1519)، (3/1157). من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-. .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أثبت الخيار لمن تلقي من الجلَب، واشتري منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر؛ لما في ذلك من التدليس عليهم والتغرير بهمينظر: بدائع الصنائع (5/232)، شرح فتح القدير (6/476)، الحاوي الكبير (5/249)، مجموع الفتاوى (20/557)، الطرق الحكمية ص (204.
أدلة القول الثاني:
الأول: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي يخدع في البيوع: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ»خلابة: هي الخديعة، فلا خلابة أي: لا خداع. [ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد الهروي (1/341)، النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (خلب)، (2/58)، الفائق في غريب الحديث (1/274) ].))رواه البخاري في كتاب البيع- باب ما يكره من الخداع في البيع-، رقم (2117)، (2/94)، ومسلم في كتاب البيوع- باب من يخدع في البيع-، رقم (1533)، (3/1165). من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-. .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر الذي يخدع بأن يشترط عدم الخداع، فدلّ ذلك على أنه لا خيار بالخداع والتدليس، إلا إذا شرطهينظر: إعلاء السنن (14/189). .
المناقشة:
نُوقش هذا الاستدلال بثلاثة أمور:
1- أن أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- له بأن يقول: ((لا خلابة)) لا يدل على عدم ثبوت خيار الخداع والتدليس إلا بالشرط، فالأحاديث الأخرى دلت على أنه ثابت للمشتري بلا شرط، وإنما أمره بذلك ليطلع البائع أنه ليس من ذوي البصائر في أمور البيع فينصح له، ويمكن أن يقال: إن أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك تأكيد لما يقتضيه عقد البيع من السلامة، وعدم الخديعة.
2- أن الخديعة المذكورة في هذه القصة يحتمل أن تكون في العيب أو في الكذب أو في الثمن أو في الغبن، فحملها على أحد هذه الاحتمالات بخصوصه يحتاج إلى دليلينظر: عارضة الأحوذي (6/8). ، ومن المعلوم أن الحنفية يثبتون خيار العيب بلا شرط مع احتمال دخوله في هذا الحديثينظر: شرح فتح القدير (6/354)، تبيين الحقائق (4/31)، حاشية ابن عابدين (5/3). .
3- أن هذا الحديث ليس قضية عامة تحمَل على العمومينظر: عارضة الأحوذي (6/8).، بل هو قضية عين خاصةقضية العين: هي الوقائع التي جاء الحكم فيها بخلاف العموم في حق أفراد معينين دون التصريح بالعلة. [ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (3/405)، شرح الكوكب المنير (3/376)، إرشاد الفحول ص (162) ]. ، فيحتج بها في حق من كان بصفة صاحب القصةينظر: فتح الباري (4/338)..
الثاني: أن مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع، وحصول التدليس، والخداع لا تنعدم به صفة السلامة، وإذا كان كذلك لم يثبت الخيارينظر: المبسوط للسرخسي (13/39)، شرح فتح القدير (6/333). .
المناقشة:
نوقش هذا التعليل بأن الأصل في إباحة أكل المال في البياعات والتجارات التراضي كما قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ سورة النساء، جزء آية: (29). .
ومن خُدع أو دُلّس عليه في البيوع، وهو غير عالم بذلك لم يحصل منه التراضي المشروطينظر: المحلى (8/439 - 440). وإن كانت صفة السلامة لم تنعدم بذلك.
الثالث: أن التدليس والخديعة إنما وقعا بسبب تفريط المشتري واغتراره، فلا يثبت بها الخيار إلا بالشرطينظر: المبسوط للسرخسي (13/39). .
المناقشة:
يناقش هذا بأن الأصل في البيوع السلامة من الخديعة والغش والتدليس، فإذا وقع ذلك، ولم يعلم به المشتري، فإن له الخيار، كما دلت عليه النصوص.
الترجيح:
بعد هذا العرض للقولين وأدلة كل قول يظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من إثبات الخيار بالتدليس والغش أقرب إلى الصواب؛ لقوة أدلته وسلامتها من المناقشات، ولما في ذلك من العدل، وحفظ الأموال، وحمل الباعة على الصدق والبيان، وترك كل غش وتدليس وخداع، والله- تعالى- أعلم.
وعلى هذا؛ فإن الأثر المترتب على الكذب أو التضليل في الإعلانات والدعايات الترغيبية هو أن للمستهلك المغرور بهذه الدعايات أو الإعلانات الكاذبة أو المضللة الخيار في إمضاء العقد أو فسخه؛ لما فيها من التدليس والغش والكذب والخداع.