القسمُ الثاني: مسوغاتُ الخروجِ المؤقتِ:
ذهبَ جمهورُ العلماءِ، ومنهمُ الأئمةُ الأربعةُ انظر: البناية 5/445، الخرشي على مختصر خليل 4/159، فتح الجواد 2/210، المغني 11/297. إلى أنَّ للحادةِ الخروجَ منْ منزلها في عدةِ الوفاةِ نهارًا إذا احتاجتْ إلى ذلكَ، إلا أنها لا تبيتُ إلا في بيتها.
واستدلوا بأدلةٍ؛ منها: حديثُ الفريعةِ بنتِ مالكٍ، ووجهُ الدلالةِ فيهِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يُنكرْ عليها خروجَها منْ منزلها لما جاءتهُ سائلةً عنْ جوازِ انتقالها. قالَ الكاسانيُّ رحمهُ اللهُ مُعلِّقًا على الحديثِ: «أفادنا الحديثُ حكمينِ: إباحةَ الخروجِ بالنهارِ، وحرمةَ الانتقالِ؛ حيثُ لمْ يُنكِرْ خروجَها، ومنَعها صلى الله عليه وسلم منَ الانتقالِ، فدلَّ على جوازِ الخروجِ بالنهارِ منْ غيرِ انتقالٍ» المبسوط (6/32)، بدائع الصنائع 3/205. واستدلوا أيضًا بما رواهُ عبدُ الرزاقِ بسندِهِ، عنْ مجاهدٍ مرسلًا، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإِذَا أَرَدْتُنَ النَّوْمَ، فَلْتَؤُبْ كُلُّ امْرَأَةٍ إِلَى بَيْتِهَا». رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/436)، ومعرفة السنن (11/218)، وعبد الرزاق في المصنف (7/36). وفي إسناد البيهقي عبد المعين بن عبد العزيز بن أبي رواد، قال عنه الحافظ في التقريب ص 361: «صدوق يخطئ»، ورجال إسناد عبد الرزاق كلهم موثقون إلا أنه مرسل، ولذا ضعفه الألباني في إرواء الغليل (7/211)، وعندي أن هذا المرسل يعتضد بحديث الفريعة، فيستأنس به والله أعلم.
واستدلوا أيضًا بما رواهُ مالكٌ عنْ يحيى بنِ سعيدٍ: «أنَّهُ بلغهُ أنَّ سائبَ بنَ خبابٍ تُوفِّيَ، وأنَّ امرأتهُ جاءتْ إلى عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، فذكرتْ لهُ وفاةَ زوجِها، وذكرتْ لهُ حرثًا لهُ بقناةٍ وسألتهُ: هلْ يصلحُ لها أنْ تبيتَ فيهِ؟ فنهى عنْ ذلكَ، فكانتْ تخرجُ منَ المدينةِ سحرًا، فتصبحُ في حرثهِ، فتظلَّ فيهِ يومها، ثمَّ تدخلُ المدينةَ إذا أمستْ، فتبيتُ في بيتِها». رواه مالك في الموطأ (2/592) برقم (88). وقد ضعفه الألباني لانقطاع سنده، إرواء الغليل 7/212.
واستدلوا أيضًا بالقياسِ على المطلقةِ المبتوتةِ؛ إذْ هي ممنوعةٌ منَ الخروجِ لغيرِ حاجةٍ في قولِ الحنفيةِ بدائع الصنائع 3/205. والمالكيةِ الخرشي على مختصر خليل 4/155. والشافعيةِ، الخرشي على مختصر خليل 4/155. ولما في صحيحِ مسلمٍ عنْ جابرٍ رضي اللهُ عنهُ قالَ: طُلِّقَتْ خالتي، فأرادتْ أنْ تجدَ نخلها، فزجرَها رجلٌ أنْ تخرجَ، فأتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «بلى، فجُدي نخلَكِ؛ فإنكِ عسى أنْ تصدقي أوْ تفعلي معروفًا». رواه مسلم (2/1121) برقم (1483). فلمَّا جازَ لها الخروجُ للحاجةِ، جازَ للمتوفَّى عنها أيضًا؛ لاتفاقِهما في علةِ المنعِ منَ الخروجِ وموجبهِ. قالَ شمسُ الدينِ الرمليُّ الملقبُ بـ"الشافعيِّ الصغيرِ" رحمهُ اللهُ: «قالَ الشافعيُّ: ونخلُ الأنصارِ قريبٌ منْ منازِلهمْ، والجذاذُ لا يكونُ إلا نهارًا، وردَ ذلكَ في البائنِ، ويقاسُ بها المتوفَّى عنها زوجُها». نهاية المحتاج 7/156. وقالَ بعضُهمْ في علةِ جوازِ خروجِ المتوفَّى عنها في النهارِ: إنها لا نفقة لها، فتحتاجُ إلى الخروجِ نهارًا لطلبِ المعاشِ. انظر: بدائع الصنائع 3/205، نهاية المحتاج 7/156.
وفي هذا القسمِ فرعانِ:
الفرعُ الأولُ: هلْ تشترطُ الحاجةُ لجوازِ خروجِ الحادةِ؟
ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى عدمِ اشتراطِ الحاجةِ لجوازِ خروجِ المعتدةِ نهارًا، فيجوزُ خروجُها لما لا تحتاجهُ كحضورِ العرسِ ونحوِهِ، قالَ القرشيُّ رحمهُ اللهُ: «وظاهرُ النقلِ جوازُهُ –أيِ: الخروجُ لغيرِ الحوائجِ–؛ فإنَّهُ قالَ: تخرجُ للعرسِ ولا تبيتُ إلا في بيتها». الخرشي على مختصر خليل 4/159. قالَ الزركشيُّ رحمهُ اللهُ: «اشترطَ كثيرٌ منَ الأصحابِ لخروجِها في النهاِر الحاجةَ، وأحمدُ وجماعةٌ لمْ يشترطوا ذلكَ». الزركشي على مختصر الخرقي 5/578. لكنَّ هذا لا يعني جوازَ الخروجِ لغيرِ حاجةٍ، قالَ الزركشيُّ رحمهُ اللهُ: «فلا حاجةَ في التحقيقِ إلى اشتراطِهِ؛ لأنَّ المرأةَ وإنْ لمْ يكنْ متوفًّى عنها تُمْنَعُ منْ خروجِها منْ بيتِها لغيرِ حاجةٍ مطلقًا». "الإنصاف" (9/227). قالَ اللهُ تعالى مخاطبًا أمهاتِ المؤمنينَ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾. [سورة الأحزاب: الآية 33]. قالَ القرطبيُّ رحمهُ اللهُ عندَ هذهِ الآيةِ: «وإنْ كانَ الخطابُ لنساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقدْ دخلَ غيرهنَّ فيهِ بالمعنى، هذا لوْ لمْ يردْ دليلٌ يخصُّ جميعَ النساءِ، كيفَ والشريعةُ طافحةٌ بلزومِ النساءِ بيوتهنَّ، والاستنكافِ عنِ الخروجِ منها إلا للضرورةِ». الجامع لأحكام القرآن 14/179. فاشتراطُ الحاجةِ لجوازِ الخروجِ إنما هوَ تأكيدٌ للأمرِ السابقِ؛ وذلكَ لأنَّ المعتدةَ بحاجةٍ إلى مزيدِ صيانةٍ عنِ الرجالِ، ويؤيدُ ذلكَ ما أخرجَهُ الترمذيُّ عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ مرفوعًا: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَها الشَّيْطَانُ». قالَ الترمذيُّ رحمهُ اللهُ: «حديثٌ حسنٌ غريبٌ». سنن الترمذي 3/467 برقم (1173).
أمَّا ما نقلَهُ الخرشيُّ عنْ مالكٍ، فالجوابُ عليهِ أنْ يقالَ: لعلهُ قالَ ذلكَ لمنِ احتاجتْ إليهِ؛ كأنْ يخرجَ أهلها لعرسٍ، وتستوحشَ بالبقاءِ وحدَها، فتخرجَ معهمْ، مع أنهُ لا بدَّ أنْ تلتزمَ باجتنابِ الزينةِ وغيرِها مما تُمْنَعُ منها الحادةُ، ويجبُ عليها أيضًا أنْ تعودَ إليهِ، وألَّا تبيتَ إلا فيهِ، واللهُ أعلمُ.
الفرعُ الثاني: حكمُ خروجِ الحادةِ ليلًا.
أمَّا خروجُها ليلًا: فظاهرُ مذهبِ الحنفيةِ البناية 5/445. والمالكيةِ الخرشي على مختصر خليل 4/159. والشافعيةِ نهاية المختاج 7/156. وهو وجْه عندَ الحنابلةِ الإنصاف 9/308. جوازُهُ في الليلِ أيضًا أولهُ وآخرهُ، إلا أنها لا تبيتُ إلا في بيتِها، ويشهدُ لهذا مرسلُ مجاهدٍ المتقدمُ. كما يؤيدهُ المعنى؛ فإنَّ الحادةَ ممنوعةٌ منَ الخروجِ إلا لحاجةٍ، فإذا قامتِ الحاجةُ في أيِّ وقتٍ جازَ لها الخروجُ. والوجهُ الثاني عندَ الحنابلةِ: منعُها منَ الخروجِ ليلًا إلا لضرورةٍ؛ المغني 11/297. لأنَّ الليلَ مظنةُ الفسادِ. والصوابُ ما عليهِ الجمهورُ، وهوَ اختيارُ شيخِنا عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ أثابهُ اللهُ.
وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ رحمهمُ اللهُ في مسألتينِ مما يتعلقُ بخروجِ الحادةِ خروجًا مؤقتًا:
المسألةُ الأولى: حكمُ خروجِ الحادةِ للحجِّ.
اختلفَ أهلُ العلمِ -رحمهمُ اللهُ تعالى- فيما إذا أحرمتِ المرأةُ بالحجِّ قبلَ موتِ زوجِها بإذنِهِ، ثمَّ خشِيَتْ فواتَ الحجِّ لضيقِ الوقتِ، فهلْ لها أنْ تخرجَ وهي حادةٌ؟ على قولينِ:
الأولُ: أنَّهُ يجبُ عليها الخروجُ للحجِّ، وهذا مذهبُ مالكٍ، جواهر الإكليل 2/392. والشافعيِّ، نهاية المحتاج 7/159. وأحمدَ، المغني 11/305. وتعليلُ قولهمْ: «أنهما عبادتانِ استوتَا في الوجوبِ وضيقِ الوقتِ، فوجبَ تقديمُ الأسبقِ منهما، كما لوْ كانتِ العدةُ أسبقَ؛ ولأنَّ الحجَّ آكدُ؛ لأنَّهُ أحدُ أركانِ الإسلامِ، والمشقةُ بتفويتهِ تعظمُ، فوجبُ تقديمهُ». المغني 11/305.
القولُ الثاني: أنَّهُ ليسَ لها الخروجُ، ولوْ أدى ذلكَ إلى فواتِ الحجِّ، وهذا مذهبُ الحنفيةِ، وعللوا قولهمْ فقالوا: «المقامُ في منزلها واجبٌ، لا يمكنُ تداركهُ بعدَ انقضاءِ العدةِ، وسفرُ الحجِّ واجبٌ يمكنُ تداركهُ بعدَ انقضاءِ العدةِ؛ لأنَّ جميعَ العمرِ وقتهُ، فكانَ تقديمُ واجبٍ لا يمكنُ تداركهُ بعدَ الفوتِ جمعًا بينَ الواجبينِ، فكانَ أولى» بدائع الصنائع 3/206. وكلامُهمْ متوجهٌ فيما لوِ ابتدأتهُ بعدَ موتهِ كما هوَ رأيُ الجمهورِ، أمَا وقدْ أحرمتْ، فأصبحتِ الموازنةُ بينَ واجبينِ يُخشى فواتهما على حدٍّ سواءٍ، فالحجُّ وإنْ كانَ زمنهُ العمر كلّهُ، لكنْ لما أحرمتْ بهِ صارَ واجبًا عليها للعامِ الذي أحرمتْ بهِ، لا يجوزُ لها تأخيرُهُ أوْ إخراجُهُ عنْ وقتِهِ، وإلا تترتبُ عليها أحكامُ فواتِ الحجِّ. فتبينُ بهذا صحةُ ما ذهبَ إليهِ الجمهورُ. أمَّا خروجُها بعدَ وفاةِ زوجِها، فهي آثمةٌ عندَ الأئمةِ الأربعةِ بلا خلافٍ، انظر: شرح فتح القدير 4/346، جواهر الإكليل 2/392، نهاية المحتاج 7/159، المغني 11/305. سواءٌ كانَ خروجُها للحجِّ أوْ لسفرٍ غيرِهِ، واللهُ أعلمُ.
المسألةُ الثانيةُ: حكمُ بقاءِ الحادةِ في المعتكفِ بعدَ وفاةِ زوجِها.
اختلفَ أهلُ العلمِ في امرأةٍ اعتكفتْ قبلَ موتِ زوجِها، هلْ يجبُ عليها إكمالُ الاعتكافِ أوْ يجبُ عليها الخروجُ؟ على قولينِ:
القولُ الأولُ: أنَّهُ يجبُ عليها إكمالُهُ، وهذا مذهبُ المالكيةِ، انظر: الخرشي على مختصر خليل 4/158، وجواهر الإكليل 1/392. وحكاهُ ابنُ قدامةَ عنْ ربيعةَ وابنِ المنذرِ، المغني 4/485. واحتجوا بأنَّ الاعتكافَ وجبَ بالدخولِ فيهِ، والعدةُ واجبةٌ، فيُقدَّمُ الأسبقُ.
القولُ الثاني: أنَّهُ يجبُ عليها الخروجُ منَ الاعتكافِ؛ لأجلِ العدةِ، وهذا مذهبُ الجمهورِ، انظر: مجموع شرح المهذب 6/514 المغني 4/485، الموسوعة الفقهية 2/113، حلية العلماء 3/ (23-224). وحجتُهمْ: أنَّ «الاعتدادَ في بيتِ زوجِها واجبٌ، فلزمها الخروجُ إليهِ، كالجمعةِ في حقِّ الرجلِ». المغني 4/485. وأجابوا على المالكيةِ، فقالوا: إنْ كانَ هذا الاعتكافُ واجبًا فإنَّهُ لا يفوتُ؛ لأنَّهُ يمكنُ قضاؤهُ، وإنْ كانَ مستحبًّا فلا يشغلُ بهِ عنِ الواجبِ. أمَّا العدةُ فإنها تفوتُ ولا يمكنُ قضاؤها، فيُبْدَأُ بالذي يُخشى فواتُهُ. وكلامُهمْ منتقضٌ بوجوبِ خروجِ المعتكفِ للجمعةِ وسائرِ الواجباتِ التي يلزمُ فيها الخروجُ منَ المعتكفِ.
والراجحُ ما ذهبَ إليهِ الجمهورُ منْ وجوبِ الخروجِ منَ الاعتكافِ، فليسَ هذا عذرًا يسوغُ تركَ الاعتدادِ في المنزلِ، واللهُ أعلمُ.