القسمُ الأولُ: مسوغاتُ خروجِ الانتقالِ:
تقدمَ أنَّهُ لا يجوزُ خروجُ المعتدةِ عنِ البيتِ الذي تُوفِّي زوجُها وهي ساكنةٌ فيهِ مدةَ العدةِ، وقدْ ذَكَرْتُ الأدلةَ المؤيدةَ لهذا القولِ. وبقي حكمُ ما إذا دعتِ الحاجةُ إلى خروجِ المرأةِ عنْ بيتها لأسبابٍ يتعذرُ معها البقاءُ، فإذا كانَ الأمرُ كذلكَ: فإنَّهُ يجوزُ لها الخروجُ؛ لأنَّ الواجباتِ مناطُها الاستطاعةُ، فإذا فُقِدَتْ سقطَ ما يترتبُ عليها منَ الأحكامِ، قالَ تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، [سورة البقرة: الآية 286]. وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رواه ابن ماجه 1/630 برقم (2045)، والحاكم 2/198 بلفظ: (تجاوز الله عن أمتي...)، وقال: هذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي الجملةِ هذهِ الأسبابُ تعودُ إلى نوعينِ رئيسيينِ، وإليكَ تفاصيلَ حُكْمِ كلِّ نوعٍ:
النوعُ الأولُ: الأسبابُ المتعلقةُ بالسكنِ.
إذا خيفَ هدمٌ أوْ غرقٌ، أوْ عدوٌّ، أوْ حريقٌ، أوْ وحشةٌ، أوْ كانتِ الدارُ غيرَ حصينةٍ يُخْشَى فيها منَ اقتحامِ اللصوصِ، أوْ كانتْ بينَ فَسقةٍ تخافُ على نفسِها، أوْ تتأذى منَ الأحماءِ أوِ الجيرانِ تأذيًّا شديدًا، أوْ لأجلِ انتقالِ جيرانها منِ حولها ووَجدتْ وحشةً؛ فإنَّ لها الانتقال إلى ما شاءتْ منَ المساكنِ بعدَ تعذرِ إقامتها لأيٍّ منَ الأسبابِ المتقدمةِ، أوْ غيرِها مما لا تستطيعُ القرارَ معهُ. انظر: البناية 5/448، الممهدات والمقدمات 1/94، نهاية المحتاج 7/(156 – 157)، شرح الزركشي 5/577. وانظر: شرح مختصر خليل للخرشي 4/159. ومنَ الأعذارِ المبيحةِ للانتقالِ: إخراجُ الورثةِ لها، أوِ انتهاءُ الإجارةِ، أوْ نحوُ ذلكَ قبلَ تمامِ عدتها، فلها الخروجُ وليسَ عليها بذلُ الأجرةِ على الصحيحِ؛ لأنَّ الواجبَ عليها فعلُ السكنى لا تحصيلها كما تقدمَ تقريرُهُ، ومنَ الأعذارِ المبيحةِ للانتقالِ: أن تكون الحادة بدويةً، فينتقلَ جميعُ أهلِ المحلةِ، فلها الانتقالُ حينئذ معهمْ، إنْ لمْ تتمكنْ منَ البقاءِ في محلها الذي هي فيهِ حينَ ماتَ زوجُها. نهاية المحتاج 7/159، المغني 11/198.
وفي هذهِ المسألةِ فروعٌ.
الفرعُ الأولُ: هلْ إذا انتقلتْ يلزمُها المسكنُ الأقربُ؟
اختلفَ أهلُ العلمِ في هذهِ المسألةِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: أنَّ الحادةَ إذا انتقلتْ، فلها أنْ تسكنَ حيثُ شاءتْ، وهوَ مذهبُ الحنفيةِ، المبسوط 6/36. والمالكيةِ، بلغة السالك 2/281. والحنابلةِ، المغني 11/292. وعللوا لقولهمْ بأنَّ الواجبَ إنما تعلقَ بمحلِ السكنى، فلما تعذرَ فما عداهُ منَ المساكنِ سواءٌ لا يتعلَّقُ بهِ الحكمُ، واختارَهُ شيخُنا محمدٌ العثيمينُ أثابهُ اللهُ.
القولُ الثاني: أنَّ الحادةَ إذا انتقلتْ وجبَ عليها أنْ تنتقلَ إلى أقربِ المساكنِ منْ مسكنِها الأولِ، وهوَ مذهبُ الشافعيةِ، الاعتناء 2/929، نهاية المحتاج 7/157. وقولٌ عندَ الحنفيةِ، حاشية رد المحتار 3/536. ووجهٌ عندَ الحنابلةِ. الإنصاف 9/306. وعللوا قولهمْ: «بأنَّهُ أقربُ إلى موضعِ الوجوبِ، فأشبه منْ وجبتْ عليهِ الزكاةُ في موضعٍ لا يجدُ فيهِ أهل السهمانِ، فإنَّهُ ينقلها إلى أقربِ موضعٍ يجدهمْ فيهِ». الإنصاف 9/306. وقدْ أجابَ ابنُ قدامةَ عنْ هذا، فقالَ: «ما ذكروهُ إثباتُ حكمٍ بلا نصٍّ ولا معنى نصٍّ؛ فإنَّ معنى الاعتدادِ في بيتِها لا يُوجَدُ في السكنى فيما قرُبَ منهُ، ويفارقُ أهلَ السهمان؛ فإنَّ القصدَ نفعُ الأقربِ، وفي نقلِها إلى أقربِ موضعٍ يجدهُ نفعُ الأقربِ، فوجبَ لذلكَ». المغني 11/292.
الفرعُ الثاني: هلْ تثبتُ أحكامُ سكنى الحادةِ للبيتِ الجديدِ؟
الصوابُ في هذهِ المسألةِ: أنَّ أحكامَ سُكنى الحادةِ تثبتُ للبيتِ الجديدِ، ويؤيدُ هذا أنَّ المعنى الذي منْ أجلِهِ أُمِرَتِ الحادةُ بلزومِ البيتِ موجودٌ في بيتها الجديدِ، كما أنَّ الواجبَ على الحادةِ أمرانِ: فعلُ السكنى، ولزومُ البيتِ، فلمَّا تعذَّرَ فِعْلُ السكنى في بيتِ زوجِها، بقِيَ عليها لزومُ البيتِ الذي انتقلتْ إليهِ، فلا يجوزُ لها الإخلالُ بهِ، فالضرورةُ تُقدَّرِ بقدْرها. قالَ الزيلعيُّ رحمهُ اللهُ: «فيكونُ ذلكَ المنزلُ –أيْ: المنتقلُ إليهِ– كالمنزلِ الأولِ، فلا تَنتقلُ منهُ إلا ببعضِ الأعذارِ». البناية 5/449. وقالَ الكاسانيُّ رحمهُ اللهُ: «إذا انتقلتْ لعذرٍ يكونُ سكناها في البيتِ الذي انتقلتْ إليهِ بمنزلةِ كونها في المنزلِ الذي انتقلتْ منهُ في حُرمةِ الخروجِ عنهُ؛ لأنَّ الانتقالَ منَ الأولِ إليهِ كانَ لعذرٍ، فصارَ المنزلُ الذي انتقلتْ إليهِ كأنَّهُ منزلها منَ الأصلِ، فلزِمَها المقامُ فيهِ حتى تنقضي العدةُ». وقالَ ابنُ مهنى النفراويُّ: «ويجبُ عليها بعدَ خروجِها للانتقالِ عندَ حصولِ سببهِ (أنْ تقيمَ بالموضعِ الذي انتقلتْ إليهِ حتى تقضي العدةَ)؛ لأنَّهُ صارَ كالأولِ» الفواكه الدواني 2/99. وهذا هوَ اختيارُ شيخِنا محمدِ بنِ صالحٍ العثيمينَ أثابهُ اللهُ.
النوعُ الثاني: الأسبابُ المتعلقةُ بالمحدةِ نفسِها.
وهذا القسمُ موافقٌ في الأحكامِ للقسمِ السابقِ لا يختلفُ عنهُ في القليلِ ولا في الكثيرِ، والداعي إلى التقسيمِ هوَ التمييزُ بينَ الأسبابِ فقطْ، وإنْ كانَ موجبُهما واحدًا.
فمنَ الأعذارِ المبيحةِ للانتقالِ والمتعلقةِ بالمرأةِ: كونُ الحادةِ بذيئةً تطيلُ لسانها على أحمائها، وتؤذيهمْ بالشتمِ والسبِّ ونحوِ ذلكَ منَ المؤذياتِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [سورة الطلاق: الآية 1]. وقدْ فسرَها كثيرٌ منَ المفسرينَ المغني 11/293. ببذاءةِ اللسانِ على الأحماءِ. وقالَ جماعةٌ منَ المفسرينَ: المرادُ بالفاحشةِ الزنا، والمرادُ بالإخراجِ هنا هوَ الإخراجُ لإقامةِ الحدِّ. والذي يظهرُ أنَّ لفظَ (الفاحشةِ) شاملٌ لهما، وهوَ إلى المعنى الأولِ أقربُ؛ لأنَّهُ الأكثرُ وقوعًا في الغالبِ، خاصةً إذا كانَ الفراقُ عنْ طلاقٍ. قالَ ابنُ العربيِّ رحمهُ اللهُ: «وأصحُّ ما قيلَ في الفاحشةِ: أنها كلُّ معصيةٍ، وهذا الذي اختارَهُ الطبريُّ، ومنْ جملتها البذاءُ على الأهلِ». القبس شرح الموطأ 2/(752 – 753). فالفحشُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما لا يحبهُ اللهُ ولا يرضاهُ منَ الأقوالِ والأفعالِ. قالَ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ: «الفحشُ: كلُّ ما خرجَ عنْ مقدارِهِ حتى يُسْتقبَحَ، ويدخلُ في القولِ والفعلِ والصفةِ»، فتح الباري 10 /435 وقالَ القسطلانيُّ رحمهُ اللهُ: «الفحشُ التكلمُ بالقبيحِ». إرشاد الساري 9 / 30 ويدلُّ على أنَّ هذا هوَ معنى الفحشِ حديثُ عائشةَ رضي اللهُ عنها لما سألتهُ صلى الله عليه وسلم: «لِمَ ألَانَ القولَ للأعرابيِّ، وكانَ قدْ قالَ قبلَ دخولِهِ عليهِ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ؟ فقالَ لها صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا؟». رواهُ الشيخانِ البخاري (5685)، ومسلم (2591). وفي روايةِ أبي داودَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ». أبو داود 5/ (145 – 146).