المسألةُ الأولى: حكمُ ما لوْ بلغَها الخبرُ وهي في غيرِ بيتها:
اختلفَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ فيما إذا بلَغَها الخبرُ وهي في غيرِ بيتها، فهلْ ترجعُ إلى بيتِها، أوْ تعتدُّ في المكانِ الذي بلغَها فيهِ الخبرُ؟ على قولينِ:
القولُ الأول: أنَّهُ يجبُ عليها الاعتدادُ في المنزلِ الذي تُوفِّيَ زوجُها وهي ساكنةٌ فيهِ، فإذا بلغَها الخبرُ وهي في غيرِهِ، وجبَ عليها الرجوعُ إليهِ، وهوَ قولُ جماهيرِ أهلِ العلمِ؛ سنن الترمذي 3/500. لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لفريعةَ بنتِ مالكٍ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ» رواه أبو داود واللفظ له (2/723)، والترمذي (3/499 ـ 500) وقال: (حسن صحيح )، والنسائي (6/199) برقم (3529)، وبلفظ: «اعتدي حيث بلغك الخبر»، وفي لفظ آخر له أيضًا برقم (3530): «امكثي في أهلك حتى يبلغ الكتاب أجله»، وابن ماجه (1/654) برقم (203) وفيه: «امكثي بيتك الذي جاء فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله». ورواه الإمام أحمد في مسنده (6/370، 420، 421) بلفظ قريب من لفظ ابن ماجه.
وقد صححه الترمذي كما تقدم، والحاكم ووافقه الذهبي، كما في المستدرك (2/208)، ذكره ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان (10/128-129) برقم (4292)، وذكر ذلك الحاكم أيضًا في المستدرك 2/208، ونقل الحافظ ابن حجر في الدراية 2/80 تصحيحه عن الذهبي، وصححه ابن عبد البر في التمهيد 21/31، وابن القيم في زاد المعاد 5/680، والصنعاني في سبل السلام 6/419، وأعله ابن حزم في المحلى 10/32 بجهالة زينب وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، وتابعه على ذلك عبد الحق، كما قال الحافظ في تلخيص الحبير 3/240، وضعفه الألباني أيضًا في إرواء الغليل (7/206-207)، وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن علة جهالة زينب رحمها الله فقال في زاد المعاد 5/681: «فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي، وروى عنها الثقات، ولم يطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه». وقال الحافظ عن هذه العلة في تلخيص الحبير 3/240: «زينب وثقها الترمذي»، وقد وثقها ابن حبان في الثقات 4/271، واحتج بها مالك كما في الموطأ في كتاب الطلاق، باب: مقام المتوفَّى عنها زوجها في بيتها حتى تحل ص405 برقم: (125)، وأما سعد فقد قال الحافظ في تلخيص الحبير 3/240: «وثقه النسائي وابن حبان»، فالراجح أن الحديث ثابت مُحتج به. فإنَّهُ أمرَها أنْ تمكثَ في بيتها الذي جاءَها فيهِ خبرُ الوفاةِ. قالَ الشوكانيُّ رحمهُ اللهُ: «وقدْ ذكَرَتْ أنَّهُ لا بيتَ لزوجِها يدلُّ على وُجوبِ سكناها في بيتِ زوجِها، إذا كانَ لهُ بيتٌ بالطريقِ الأولى»، نيل الأوطار 8/90 – 91. وقالَ الزركشيُّ رحمهُ اللهُ: «وتجبُ العدةُ في المنزلِ الذي ماتَ الزوجُ وهي ساكنةٌ فيهِ، سواءٌ كانَ مملوكًا لزوجِها أوْ لمْ يكنْ كحالِ فريعةَ». شرح الزركشي 5/576.
القولُ الثاني: أنَّهُ يجبُ عليها الاعتدادُ في المكانِ الذي جاءَها فيهِ الخبرُ، وبهِ قالَ ابنُ المسيبِ والنخعيُّ، واستدلوا ببعضِ ألفاظِ حديثِ فريعةَ، وفيهِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «اعْتَدِّي حَيْثُ أَتَاكِ الْخَبرُ»، شرح الزركشي 5/576. وهذا يدلُّ على أنها لا تبرحُ منْ مكانها الذي أتاها فيهِ نعْيُ زوجِها؛ اتباعًا للفظِ الخبرِ الذي رويناهُ. انظر: المغني 11/291. وقدْ أجابَ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ على استدلالهمْ بهذا اللفظِ، فقالَ: «ولنا قولُهُ -عليهِ السلامُ-: (امكثي في بيتِكِ)، واللفظُ الآخرُ قضيةُ عينٍ، والمرادُ بهِ هذا، فإنَّ قضايا الأعيانِ لا عمومَ لها، ثمَّ لا يمكنُ حملهُ على العمومِ، فإنَّهُ لا يلزمُها الاعتدادُ في السوقِ والطريقِ والبريةِ إذا أتاها الخبرُ وهي فيها». انظر: المغني 11/291.
والذي يبدو أنَّ هذهِ اللفظةَ شاذةٌ، فإنَّ أكثرَ الذينَ رووا حديثَ فريعةَ لمْ يذكرْهُ بهذا اللفظِ، والقصةُ واحدةٌ، فالذي قالَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا بدَّ أنْ يكونَ أحدَ هذينِ اللفظينِ، والأكثرونَ رووهُ بلفظِ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِِ...»، والأخذُ بهِ هوَ الأجودُ والأقربُ إلى الصوابِ، واللهُ أعلمُ.