المبحثُ السادسُ: وجوبُ لزومِ الحادةِ بيتها
للعلماءِ رحمهمُ اللهُ في وُجوبِ لزومِ الحادةِ بيتها الذي تُوفِّي زوجُها وهي فيهِ قولانِ:
القولُ الأولُ: أنَّهُ يجبُ عليها لزومُ بيتِ زوجِها الذي تُوفِّيَ عنها وهي فيهِ، وإليهِ ذهبَ عامةُ العلماءِ، انظر: المغني 11/290، التمهيد 21/31. ومنهمِ الأئمةُ الأربعةُ. انظر: شرح فتح القدير 4/343، زاد المحتاج 3/523، جواهر الإكليل 1/391، والمقدمات الممهدات 1/514، الإنصاف 9/306، المغني 11/290. واستدلوا بقولِهِ تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾. [سورة الطلاق: الآية 1]. قالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ عندَ هذهِ الآيةِ: «فكانتْ هذهِ الآيةُ في المطلقاتِ، وكانتِ المعتداتُ منَ الوفاةِ معتداتٍ كعدةِ المطلقةِ، فاحتملتْ أنْ تكونَ في فرضِ السكنى للمطلقاتِ ومنعِ إخراجهنَّ تدلُّ على أنَّ في مثلِ معناهنَّ في السكنى ومنعِ الإخراجِ المتوفَّى عنهنَّ؛ لأنهنَّ في معناهنَّ في العدةِ». الأم 5/226.
والاستدلالُ بهذهِ الآيةِ على هذهِ المسألةِ لا يخلو منَ النقاشِ؛ فإنَّ أكثرَ المفسرينَ على أنَّ الآيةَ في المطلقاتِ الرجعياتِ، لا في شأن المتوفَّى عنها، اللهمَّ إلا على قولِ منْ قالَ بالقياسِ عليهنَّ، كما هوَ ظاهرٌ منْ كلامِ الشافعيِّ المتقدمِ، وأشارَ إليهِ الطحاويُّ رحمهُ اللهُ. الأم 5/226. وأصرحُ منَ هذه الآيةِ في الدلالةِ على وجوبِ لزومِ الحادةِ بيتها الذي تُوفِّي عنها زوجُها وهي فيهِ ما أخرجَهُ الخمسةُ رواه أبو داود واللفظ له (2/723)، والترمذي (3/499 ـ 500) وقال: (حسن صحيح )، والنسائي (6/199) برقم (3529)، وبلفظ: «اعتدي حيث بلغك الخبر»، وفي لفظ آخر له أيضًا برقم (3530): «امكثي في أهلك حتى يبلغ الكتاب أجله»، وابن ماجه (1/654) برقم (203) وفيه: «امكثي بيتك الذي جاء فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله». ورواه الإمام أحمد في مسنده (6/370، 420، 421) بلفظ قريب من لفظ ابن ماجه.
وقد صححه الترمذي كما تقدم، والحاكم ووافقه الذهبي، كما في المستدرك (2/208)، ذكره ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان (10/128-129) برقم (4292)، وذكر ذلك الحاكم أيضًا في المستدرك 2/208، ونقل الحافظ ابن حجر في الدراية 2/80 تصحيحه عن الذهبي، وصححه ابن عبد البر في التمهيد 21/31، وابن القيم في زاد المعاد 5/680، والصنعاني في سبل السلام 6/419، وأعله ابن حزم في المحلى 10/32 بجهالة زينب وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، وتابعه على ذلك عبد الحق، كما قال الحافظ في تلخيص الحبير 3/240، وضعفه الألباني أيضًا في إرواء الغليل (7/206-207)، وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن علة جهالة زينب رحمها الله فقال في زاد المعاد 5/681: «فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي، وروى عنها الثقات، ولم يطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه». وقال الحافظ عن هذه العلة في تلخيص الحبير 3/240: «زينب وثقها الترمذي»، وقد وثقها ابن حبان في الثقات 4/271، واحتج بها مالك كما في الموطأ في كتاب الطلاق، باب: مقام المتوفَّى عنها زوجها في بيتها حتى تحل ص405 برقم: (125)، وأما سعد فقد قال الحافظ في تلخيص الحبير 3/240: «وثقه النسائي وابن حبان»، فالراجح أن الحديث ثابت مُحتج به. عنْ فريعةَ بنتِ مالكٍ رضي اللهُ عنها قالتْ: «خرجَ زوجي في طلبِ أعلاجٍ لهُ، فأدركهمْ في طرفِ القدومِ فقتلوهُ، فأتاني نعيهُ وأنا في دارٍ شاسعةٍ منْ دورِ أهلي، فذكرتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إنَّ نعي زوجي أتاني في دارٍ شاسعةٍ منْ دورِ أهلي، ولمْ يدعْ نفقةً ولا مالًا ورثتهُ، وليسَ المسكنُ لهُ، فلوْ تحولتُ إلى أهلي وإخوتي لكانَ أرفقَ لي في بعضِ شأني؟ قالَ: «تحولي»، فلما خرجتُ إلى المسجدِ أوْ إلى الحجرةِ دعاني، أوْ أمرَ بي فدعيتُ، فقالَ: «امكثي في بيتكِ حتى يبلغَ الكتابُ أجلَهُ»، قالتْ: فاعتددتُ فيهِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، قالتْ: وأرسلَ إليَّ عثمانُ فأخبرتُهُ، فأخذَ بهِ.
القولُ الثاني: أنّهُ لا يجبُ عليها لزومُ بيتِ زوجِها بلْ تعتدُّ حيثُ شاءتْ، واختارَهُ جماعةٌ منَ المتقدمينَ منَ الصحابةِ وغيرِهمْ، منهمْ عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباسٍ، وجابرٌ، وعائشة، وجابرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ، وعطاءٌ. المغني 11/290. وحكاهُ البغويُّ عنْ أبي حنيفةَ، واختارَهُ المزنيُّ منَ الشافعيةِ، وهوَ قولُ داودَ الظاهريِّ الجامع لأحكام القرآن 3/177. وابنِ حزمٍ أيضًا. المحلى 10/282.
واستدلوا بقولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾. [سورة البقرة: الآية 240]. قالَ: مجاهدٌ رحمهُ اللهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾، قالَ: كانتْ هذهِ العدةُ تعتدُّ عندَ أهلِ زوجِها واجبًا، فأنزلَ اللهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾، قالَ: جعلَ اللهُ لها تمامَ السنةِ سبعةَ أشهرٍ وعشرينَ ليلةً وصيةً، إنْ شاءتْ سكنتْ في وصيتها، وإنْ شاءتْ خرجتْ، وهوَ قولُهُ تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾. وقالَ عطاءٌ: قالَ ابنُ عباسٍ: نسختْ هذهِ الآيةُ عدَّتها عندَ أهله. تفسير البغوي (1/ 279) وهذا أظهر مما في تفسير ابن كثير / دار الفكر (1/ 366). فتعتدُّ حيثُ شاءتْ، وهي قولُ اللهِ تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، وقالَ عطاءٌ: إنْ شاءتِ اعتدتْ عندَ أهلهِ وسكنتْ في وصيتها، وإنْ شاءتْ خرجتْ؛ لقولِهِ تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾، قالَ عطاءٌ: «ثمَّ جاءَ الميراثُ، فنسخَ السكنى، فتعتدُّ حيثُ شاءتْ، ولا سُكنى لها». تفسير ابن كثير 1 / 659 ووجهُ الدلالةِ منِ الآيةِ: أنها بيَّنتْ أنَّ خروجهنَّ لا حرجَ فيهِ. واستدلوا أيضًا بأنَّ اللهَ تعالى أمرَ بالاعتدادِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا دونَ تعرضٍ لذكرِ مكانٍ معينٍ، فدلَّ على عدمِ اشتراطهِ. كما استدلوا أيضًا بما رواهُ الدارقطنيُّ بسندهِ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنهُ: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ المتوفَّى عنها زوجُها أنْ تعتدَّ حيثُ شاءتْ». رواه الدارقطني (3/266): وقال: لم يسنده غير أبي مالك النخعي وهو ضعيف، ومحبوب ضعيف أيضًا. وقالَ أيضًا: إنَّ كثيرًا منَ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم قُتِلَ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الجهادِ، ولمْ يُعْلَمْ أنَّهُ ألزمَ نساءَهمْ بالبقاءِ في بيوتِ أزواجهنَّ مدةَ العدةِ، ولوْ حصلَ ذلكَ لكانَ منْ أظهرِ الأشياءِ وأبيَنِها، ولَمَا خَفِيَ على عائشةَ وابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما، ولوْ كانتِ السنةُ جاريةً بذلكَ لمْ تأتِ فريعةُ للاستئذانِ، ولَمَا أذِنَ لها ثُمَّ ردها ومنعَها منْ ذلكَ؛ لأنَّ هذا يُفضي إلى تغييرِ الحكمِ مرتينِ، وهذا غيرُ معهودٍ في الشريعةِ، وأجابوا عنْ أدلةِ الجمهورِ بأنَّ الآيةَ لا تشملُ المتوفَّى عنها زوجُها، وأمَّا حديثُ فريعة فضعيفٌ.
والراجحُ ما ذهبَ إليهِ الجمهورُ منْ وجوبِ لزومِ الحادةِ بيتَ زوجِها؛ لقوةِ ما استدلوا بهِ، وأمَّا الجوابُ على القولِ الثاني فمنْ وجوهٍ:
أولًا: قولهمْ: إنَّ قولَ اللهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [سورة البقرة: الآية 234]. ناسخةٌ لوجوبِ لزومِ المتوفَّى عنها زوجُها البيتَ فغيرُ مُسلَّمٍ؛ فإنَّ الآيةَ لمْ تتعرضْ لهذا، بلْ نسختْ حكمًا آخرَ. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ في بيان الحكم المنسوخ: «وهوَ استحقاقُها للسكنى في بيتِ الزوجِ الذي صارَ للورثةِ سَنةً، وصيةً أوصى اللهُ بها الأزواجَ تقدمَ بهِ على الورثةِ، ثمَّ نسخَ ذلكَ بالميراثِ، ولمْ يبقَ لها استحقاقٌ في السكنى المذكورةِ، فإنْ كانَ المنزلُ الذي تُوفِّي فيهِ الزوجُ لها، أوْ بذلَ الورثةُ لها السكنى، لزمَها الاعتدادُ فيهِ، وهذا ليسَ بمنسوخٍ، فالواجبُ عليها فعلُ السكنى لا تحصيلُ المسكنِ. فالذي نُسِخَ إنما هوَ اختصاصُها بسُكنى السَّنةِ دونَ الورثةِ، والذي أُمِرَتْ بهِ أنْ تمكثَ في بيتِها حتى تنقضي عدَّتها، ولا تنافي بينَ الحكمينِ، واللهُ أعلمُ». تهذيب السنن 3/200.
وقدْ يجابُ عليهِ بأنَّ المرادَ بقولِهِ تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، إنما هوَ بعد الأربعةِ الأشهرِ والعشرِ جمْعًا بينَ النصوصِ، وقدْ ألمحَ الشوكانيُّ رحمهُ اللهُ إلى هذا الوجهِ، فقالَ: «وأجيبَ عنِ استدلالهمْ بحديثِ ابنِ عباسٍ بأنَّ نسخَ بعضِ المدةِ إنما يستلزمُ نسخَ نفقةِ المنسوخِ وكسوتهِ وسكناه دونَ ما لمْ يُنْسَخْ، وهوَ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ». نيل الأوطار 8/91.
ثانيًا: استدلالهمْ بحديثِ عليٍّ رضي اللهُ عنهُ مردودٌ بأنَّ الحديثَ ضعيفٌ، كما تقدمَ عنِ الدارقطنيِّ. قال الدارقطني (3/266): لم يسنده غير أبي مالك النخعي وهو ضعيف، ومحبوب ضعيف أيضًا.
ثالثًا: قولهمْ: إنَّ اللهَ لمْ يأمرْها. فجوابهُ: إنَّهُ أمرَها؛ إذْ إنَّهُ أمرَ باتباعِ ما جاءَنا بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [سورة الحشر: الآية 7]. وقدْ ثبتَ في السُّنةِ أمرُ المتوفَّى عنها بالبقاءِ في بيتِها الذي تُوفِّيَ عنها زوجُها وهي فيهِ.
رابعًا: تضعيفُهمْ حديثِ فريعةَ مردودٌ، بل الحديثُ ثابتٌ، وقدْ قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ في جوابهِ على إعلال الحديث: «وقَالَ الْآخَرُونَ ليسَ في هذا ما يُوجِبُ ردَّ هذهِ السُّنةِ الصحيحةِ الصريحةِ التي تلقاها عثمانُ بنُ عفانَ وأكابرُ الصحابةِ بالقبولِ». زاد المعاد 5/691.
خامسًا: قولهمْ: لوْ كانَ مشروعًا مشهورًا لَمَا خَفِيَ على عائشةَ وابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما، فالجواب عليهِ بأنْ يقالَ: لعلَّهُ لمْ يبلغْهما، أوْ تأولاهُ، أوْ قامَ عندَهما معارضٌ لهُ، فلا حجةَ فيما احتجوا بهِ، وقدْ خفِيَتْ بعضُ السننِ المشهورةِ على بعضِ أكابرِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهمْ ولمْ يُسوِّغْ هذا ترْكَها.
سادسًا: قولهمْ: إنَّ كثيرًا منَ الصحابةِ رضي اللهُ عنهمْ قُتِلوا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولمْ يُنْقَلْ أنَّهُ أمرَ نساءَهمْ بأنْ يعتددنَ في بيوتهنَّ، فجوابُهُ: أنَّ عدمَ النقلِ ليسَ نقلًا للعدمِ، وقدْ وردَ ما يدلُّ على أنَّ وجوبَ لزومِ البيتِ للمتوفَّى عنها زوجُها مُستقرٌّ عندَهمْ، وذلكَ منْ حديثِ فريعةَ نفسِهِ؛ حيثُ إنَّ ذلكَ لوْ لمْ يكنْ مشهورًا عندَها أوْ عندَهمْ لما احتاجتْ إلى الاستئذانِ، وذكرِ العذرِ لطلبِ النقلةِ. ويُستأْنَسُ بما وردَ مرسلًا منْ طريقِ مجاهدٍ، وفيهِ قالَ: استشهدَ رجالٌ يومَ أُحدٍ، فجاءَ نساؤهمْ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلنَ: إنَّا نستوحشُ يا رسولَ اللهِ، فنبيتُ عندَ إحدانا، حتى إذا أصبحْنا تبددْنا في بيوتِنا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإِذَا أَردْتُنَّ النَّوْمَ، فَلْتَؤُبْ كُلُّ امْرَأَةٍ إِلَى بَيْتِهَا». أخرجَهُ البيهقيُّ وعبدُ الرزاقِ. رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/436)، ومعرفة السنن (11/218)، وعبد الرزاق في المصنف (7/36). وفي إسناد البيهقي عبد المعين بن عبد العزيز بن أبي رواد، قال عنه الحافظ في التقريب ص 361: «صدوق يخطئ»، ورجال إسناد عبد الرزاق كلهم موثقون إلا أنه مرسل، ولذا ضعفه الألباني في إرواء الغليل (7/211)، وعندي أن هذا المرسل يعتضد بحديث الفريعة، فيستأنس به والله أعلم.
وأمَّا إذنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ منعُهُ إياها منَ التحولِ بعدَ ذلكَ، فقدْ يكونُ اجتهادًا منهُ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لما تأمَّلَ مسألتها رأى عدمَ العذرِ المبيحِ للخروجِ، فرجعها إلى الأصلِ، وهوَ لزومُ البيتِ مدةَ العدةِ، وهذا كترخيصهِ للأعمى في الصلاةِ في بيتهِ، فلما ولى دعاهُ، فقالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟» فقالَ: نعمْ، قالَ: «فَأَجِبْ». وهوَ حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، أخرجه مسلم (653). فلمْ يوجبْ ذلكَ تعليلًا في الحديثِ، أوْ أنَّهُ أُوحِيَ إليهِ عدمُ الإذنِ لها، وهذا كجوابهِ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ قالَ لهُ: أرأيتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ اللهِ، تُكفَّرُ عني خطاياي؟ فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نعمْ، إنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ»، ثمَّ استعادَ الرجلُ سؤالَهُ، فأعادَ عليهِ، فقالَ لهُ مثلَ قولِهِ الأولِ، ثمَّ قالَ: «إِلَّا الدَّيْنَ؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ»، والحديثُ في الصحيحِ، وذكرَ النوويُّ رحمهُ اللهُ في شرحِ مسلمٍ أنَّ قولَهُ: «إِلَّا الدَّيْنَ» محمولٌ على أنَّهُ أُوحِيَ إليهِ في الحالِ. "شرح النووي"(13/29).
فتبيَّنُ بهذا ضعفُ أدلةِ أصحابِ القولِ الثاني، وأنَّ ما ذهبَ إليهِ الجمهورُ منْ وجوبِ اعتدادِ المتوفَّى عنها في بيتها الذي تُوفِّيَ عنها زوجُها وهي فيهِ، هوَ الراجحُ منْ أقوالِ أهلِ العلمِ، واللهُ أعلمُ.
وفي هذا المبحثِ عدَّةُ مسائلَ: