المبحثُ الرابعُ: تجنبُ الحليِّ
ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ رحمهمُ اللهُ إلى أنَّ الحادةَ ممنوعةٌ منْ لُبْسِ الحُليِّ، وقدْ حكى ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ الإجماعَ على ذلكَ، وقالَ: «وأجمعوا على منعِ المرأةِ المحدةِ منْ لُبْسِ الحُليِّ»، الإجماع ص 111. وحكى ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ أنَّ ذلكَ قولُ عامةِ أهلِ العلمِ. إلا أنَّ حكايةَ الإجماعِ على المنعِ غيرُ دقيقٍ؛ فإنَّ ابنَ المنذرِ نفسَهُ حكى فيهِ خلافًا سنذكرُهُ قريبًا. وهذا المنعُ شاملٌ لما ظهرَ منَ الحُليِّ وما استترَ تحتَ الثيابِ، على الصحيحِ منْ أقوالِ أهلِ العلمِ. ولهذا قالَ الهيتميُّ رحمهُ اللهُ: «ولوْ تحتَ الثيابِ». سبق في المسرد. ودليلُ الجمهورِ ما روتْهُ أمُّ سلمةَ رضي اللهُ عنها منْ قولِهِ صلى الله عليه وسلم فيما تمنعُ منهُ المتوفَّى زوجُها: «وَلَا الحُلِيّ»؛ إذْ إنَّ الحليَّ منَ الزينةِ التي تتجملُ بها المرأةُ، قالَ الشاعرُ:
وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ تُتَمِّمُّ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا المغني 11/289. ديوان ابن الرومي (ص: 2020) وفيه (حيلة) بدل (زينة)
والحليُّ يشملُ كلَّ أنواعِهِ، مما تتجملُ بهِ المرأةُ وتتحلى بِهِ؛ منْ قرطٍ، أوْ سوارٍ، أوْ خاتمٍ، سواءٌ كانَ ذلكَ منْ فضةٍ أوْ غيرِها. الفواكه الدواني 2/95.
وقدْ ذهبَ عطاءٌ رحمهُ اللهُ إلى إباحةِ الفضةِ دونَ الذهبِ، ونُقِلَ عنهُ: أنَّهُ لا تكرهُ الفضةُ إذا كانَ عليها حينَ ماتَ، ولكنْ تُمْنَعُ منِ ابتداءِ التحلي، الإشراف على مذاهب العلماء ص 296. وذكرَ عنهُ ابنُ قدامةَ الإباحةَ مطلقًا. المغني 11/289. واختارَ الشافعيةُ جوازَهُ بالليلِ معَ الكراهةِ، ومنعَهُ في النهارِ. مغني المحتاج 3/399 – 400. وقدْ ذكرَ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ عنِ الشافعيةِ وجهينِ؛ فقالَ: «في التحلي بالذهبِ والفضةِ وباللؤلؤِ ونحوِهِ وجهانِ، أصحُّهما جوازُهُ». فتح الباري 9/491. وذهبَ ابنُ حزمٍ إلى جوازِ التحلي مطلقًا؛ لضعفِ الحديثِ الواردِ في النهيِّ عنهُ.
وقدْ تقدمَ كلامُ ابنِ القيمِ رحمهُ اللهُ في إبطالِ تضعيفِ الحديثِ. الحديث رواه الإمام أحمد (6/302)، وأبو داود (2/292) واللفظ لهما، ورواه النسائي (6/203 ) برقم (3535) دون قوله: «ولا الحلي»، وقد ضعف ابن حزم الحديث؛ فقال في المحلى (10/277): «ولا يصح؛ لأن إبراهيم بن طهمان ضعيف». وقد استنكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (5/708 -709) تضعيف الحديث بإبراهيم؛ فقال: «ولا يحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه ولا تضعيفه». وهذا الإطلاق من العلامة ابن القيم في نفي عدم تعليل وتضعيف المحدثين ما رواه ابن طهمان يحتاج إلى تأمل وتحرير؛ فقد قال ابن حبان: قد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات، كما نقله الألباني في «تحذير الساجد»، بل قال فيه ابنُ عمار الموصلي: ضعيف الحديث مضطرب الحديث، فإطلاق ضعف حديثه وإن كان فيه نظر، إلا أنه كما قال الحافظ في التقريب: ثقة يغرب – وهو الذي تفرد بحديث: «إن في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًّا». ا هـ «تحذير الساجد». فوجبَ قبولُ الحديثِ والعملُ بمقتضاه منْ تحريمِ الحليِّ مطلقًا.
أمَّا منْ فرَّقَ بينَ الابتداءِ والاستدامةِ، أوْ بينَ الذهبِ والفضةِ، فلا حجةَ لهمْ؛ فإنَّ اسمَ الحليِّ يصدقُ عليهما جميعًا. وأمَّا قولُ الشافعيةِ في التفريقِ بينَ الليلِ والنهارِ في لبسهِ، فلا وجهَ لهُ أيضًا؛ لأنَّ التفريقَ بينَ الليلِ والنهارِ إنما وردَ فيما دعتْ إليهِ الضرورةُ ولمْ يمكنْ دفعُها إلا بارتكابِ المحظورِ؛ كالتداوي بالكحلِ مثلًا. أمَّا العلةُ التي ذكروها في إباحةِ لُبْسِ الحليِّ ليلًا، وهوَ الإحرازُ عندَ خشيةِ سرقتِهِ، فيقالُ: الإحرازُ يمكنُ تحققُهُ بغيرِ هذا، وقدْ ذكرنا آنفًا منْ شروطِ إباحةِ ارتكابِ المحظورِ: ألَّا يمكنُ اندفاعُ الضرورةِ إلا بهِ.
ثمَّ إنَّ ما كانَ في معنى الذهبِ والفضةِ مما يُتزيَّنُ بهِ، فلهُ حكمُ الحليِّ، نصَّ عليهِ الشافعيةُ رحمهمُ اللهُ في الأصحِّ عندَهمْ، قالَ الشربينيُّ رحمهُ اللهُ: «وكذا لؤلؤٌ يَحرمُ عليها التزينُ بهِ (في الأصحِّ)؛ لأنَّ الزينة فيهِ ظاهرةٌ، قالَ تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾. مغني المحتاج 3/400. والآية في [سورة الكهف رقم: 31]. وقالَ ابن المقرئ رحمهُ اللهُ: «ولا يجوزُ التحلي برصاصٍ ونحاسٍ مموهينِ بالذهبِ والفضةِ أوْ شبههما، بحيثُ لا يُعْرَفُ إلا بالتأملِ، أوْ كانتْ منْ قومٍ عادتهمُ التحلي بذلكَ، فإنَّهُ يَحرمُ في هذهِ الأحوالِ». إخلاص الناوي 3/346. ومنعَ المالكيةُ أيضًا جميعَ الحليِّ حتى الخاتمَ منَ الحديدِ. إخلاص الناوي 3/346. قالَ الباجيُّ رحمهُ اللهُ: «وفي الجملةِ: كلُّ ما تلبسُهُ المرأةُ على وجهِ ما يستعملُ عليهِ الحُليُّ منَ التجمُّلِ، فلا تلبسهُ الحادةُ»، ثمَّ قالَ: «ولمْ ينصَّ أصحابُنا على الجوهرِ واليواقيتِ والزمردِ، وهوَ داخلٌ تحتَ قولِهِ: (ولا غير ذلكَ منَ الحليِّ)، فكلُّ ما يقعُ عليهِ هذا الاسمُ ممنوعٌ عندَهُ، واللهُ أعلمُ». المنتقى 4/147.
ويبدو أنَّ هذا هوَ الحالُ عندَ الحنفيةِ والحنابلةِ؛ فإنهمْ لمْ ينصوا على غيرِ الذهبِ والفضةِ، واللهُ أعلمُ.
وهذا القولُ هوَ الموافقُ للخبرِ والنظرِ، فأمَّا الخبرُ، فقولُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا الْحُلِيّ»؛ فإنَّ اسمَ الحليِّ يصدقُ على الذهبِ والفضةِ وغيرِهِ، كاللؤلؤِ والزمردِ والألماسِ، فإنَّ هذهِ الأشياءَ مما يتحلَّى بهِ النساءُ، وقدْ سمَّى اللهُ تعالى ما يُستخرَجُ منَ البحرِ وغيرِهِ حُليًّا، فقالَ تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾. [سورة النحل: الآية 14]. وأمَّا النظرُ: فإنَّ الحادةَ ممنوعةٌ منَ الزينةِ، فلا يجوزُ لبسُ الحليةِ؛ لأنها مما يُتزيَّنُ بهِ.