المسألةُ الأولى: حكمُ الكحلِ في الضرورةِ:
اختلفَ أهلُ العلمِ في الاكتحالِ للحادةِ إذا اضطرتْ إليهِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: لا يجوزُ للحادةِ الاكتحالُ مطلقًا، ولوْ لضرورةِ، وبهِ قالَ جماعةٌ منْ أهلِ العلمِ، ومنهمُ ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ، الإشراف على مذاهب العلماء ص 296. واستدلوا بحديثِ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها الذي فيهِ منعهُ صلى الله عليه وسلم الحادةَ منَ الاكتحالِ معَ حاجتِها إليهِ.
القولُ الثاني: يجوزُ للحادةِ الاكتحالُ في حال الضرورة، تداويًا لا زينةً، ليلًا وتمسحُهُ نهارًا، وبهِ قالَ جمهورُ العلماءِ منَ الصحابةِ ومنْ بعدهمْ، كابنِ عمرَ، وعائشةَ، وأمِّ سلمةَ، وأمِّ عطيةَ رضي اللهُ عنهمْ، وابنِ المسيبِ، وعروةَ، والأئمةِ الأربعةِ رحمهمُ اللهُ. انظر: شرح فتح القدير 3/339، جواهر الإكليل 1/389، مغني المحتاج 3/400 المبدع 8/142. واستدلوا بما روتْهُ أمُّ سلمةَ رضي اللهُ عنها، وفيهِ قالتْ: دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ توفي أبو سلمةَ، وقدْ جعلتُ عليَّ صبرًا، فقالَ: «مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟» فقلتُ: إنما هوَ صبرٌ يا رسولَ اللهِ، ليسَ فيهِ طيبٌ، فقالَ: «إنَّهُ يُشِبُّ الْوَجْهَ، فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَتَنْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ». رواه أبو داود واللفظ له (2/728)، باب: ما تجتنبه المعتدة في عدتها، ورواه النسائي (6/204 ) برقم (3537)، وقد صحح الحديث ابن عبد البر في التمهيد 17/318، وحسنه ابن القيم في زاد المعاد 5/703، والحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ص204، وضعفه عبد الحق كما ذكر ذلك الزيلعي في نصب الراية 3/261. قالَ في الفتاوى الهنديةِ: «وإنما يلزمُها الاجتنابُ في حالةِ الاختيارِ، أمَّا في حالةِ الاضطرارِ فلا بأسَ بها». الفتاوى الهندية 1/533. وقدْ أُعِلَّ هذا الحديثُ بما في "الصحيحينِ" منْ حديثِ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها، وفيهِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم للتي استأذنتْهُ في الكحلِ لابنتِها: «لَا» مرتينِ أوْ ثلاثًا. قالَهُ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ. تلخيص الحبير 3/239.
وأجابَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ اللهُ عنْ هذا التعليلِ، فقالَ: «إنَّ ترتيبَ الحديثِ -واللهُ أعلمُ- على أنَّ الشكاةَ التي قالَ فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا» لمْ تبلغْ -واللهُ أعلمُ- منها مبلغًا لا بدَّ لها فيهِ منَ الكحلِ بقولِهِ هاهنا، ولوْ كانت محتاجةً إلى ذلكَ، مضطرة تخافُ ذهابَ بصرِها، لأباحَ لها ذلكَ -واللهُ أعلمُ- كما صنعَ بالتي قالَ لها: «اجعليهِ بالليلِ، وامسحيهِ بالنهارِ». والنظرُ يشهدُ بهذا التأويلِ؛ لأنَّ الضروراتِ تنقلُ المحظورَ إلى حالِ المباحِ في الأصولِ، وكذلكَ جعلَ مالكٌ فتوى أمِّ سلمةَ هذهِ تفسيرًا للحديثِ المسندِ في الكحلِ؛ لأنَّ أمَّ سلمةَ روتهُ، وما كانتْ لتخالفَهُ إذا صحَّ عندَها، وهي أعلمُ بتأويلهِ ومخرجِهِ. والنظرُ يشهدُ لذلكَ؛ لأنَّ المضطرَّ إلى الشيءِ لا يُحْكَمُ لهُ بحكمِ المترفِّهِ المتزيِّنِ، وليسَ الدواءُ والتداوي منَ الزينةِ في شيءٍ، وإنما نُهِيَتِ الحادةُ عنِ الزينةِ، لا عنِ التداوي، وأمُّ سلمةَ أعلمُ بما روتْ معَ صحتهِ في النظرِ، وعليهِ أهلُ الفقهِ، وبهِ قالَ مالكٌ والشافعيُّ وأكثرُ الفقهاءِ». التمهيد 17/319.
فتلخَّصَ لنا منْ كلامِهِ رحمهُ اللهُ ثلاثةُ أجوبةٍ:
الأولُ: أنَّ التي استأذنتْ لابنتها في الكحلِ لمْ يبلغْ ما بها حَدَّ الضرورةِ، خلافًا لأمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها، فإنها اضطرتْ إليهِ، فأباحَهُ لها.
الثاني: أنَّ النظرَ يشهدُ للإباحةِ عندَ الضرورةِ؛ لأنَّ الضروراتِ تبيحُ المحظوراتِ.
الثالثُ: أنَّ فتوى أمِّ سلمةَ راويةِ الحديثِ تفسرُ المرادَ بهِ، فقدْ روى مالكٌ رحمهُ اللهُ بلاغًا: أنَّ أمَّ سلمةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالتْ لامرأةٍ حادٍّ على زوجِها اشتكتْ عينها، فبلغَ ذلكَ منها: «اكْتَحِلِي بِكُحْلِ الْجَلَاءِ بِاللَّيْلِ، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ». الموطأ (2/598) برقم (105).
وذكرَ غيرُهُ جوابًا رابعًا: أنَّ النهي في حديثِ المنعِ معَ الضرورةِ إنما كانَ عنْ كحلٍ مخصوصٍ، وهوَ ما يقتضي التزينَ؛ لأنَّهُ يمكنُ التداوي بما لا زينةَ فيهِ. انظر: فتح الباري 9/ (488 – 489).
ولا تخلو أكثرُ هذهِ الأجوبةِ منَ اعتراضٍ، وإليكَ هذهِ الاعتراضاتِ:
الاعتراضُ الأولُ: ما ذكرَهُ ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ اللهُ منْ أنَّ ابنةَ الشاكيةِ لمْ تبلغْ بها الحالُ حدَّ الضرورةِ، قالَ فيهِ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ: «وتعقبُ بأنَّ في حديثِ شعبةَ المذكورِ (فخشُوا على عينها)، وفي روايةِ ابنِ منده المتقدمِ ذكرها: (رمدتْ رمدًا شديدًا، وقدْ خشيتْ على بصرِها)، وفي روايةِ الطبرانيِّ أنها قالتْ في المرةِ الثانيةِ: (أنها تشتكي عينها فوقَ ما يظنُ، فقالَ: لا) وفي روايةِ ابنِ القاسمِ بنِ أصبغٍ أخرجها ابنُ حزمٍ: (إني أخشى أنْ تنفقئَ عينها، قالَ: لا، وإنِ انفقأتْ). وسندُهُ صحيحٌ. فتح الباري 9/488.
ومجموعُ هذا يبيِّنُ أنَّ الشكاةَ قدْ وصلتْ إلى حدِّ الضرورةِ.
الاعتراضُ الثاني: احتجاجُهمْ بفتوى أمِّ سلمةَ، وهي راويةُ الحديثِ، وأنَّ تفسيرَها بيانٌ لمرادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مردودٌ بأنَّ العبرةَ بما روتْ لا بما رأتْ.
الاعتراضُ الثالثُ: قولهمْ: إنَّ النهي كانَ عنْ كحلٍ مخصوصٍ، وهوَ ما يقتضي التزينَ بهِ؛ لأنَّهُ يمكنُ التداوي بما لا زينةَ فيهِ. فالجوابُ عليهِ بأنْ يقالَ: إنَّ المرأةَ لمْ تخصَّ نوعًا معينًا في شكاتها، بلْ سألتْ عنِ الاكتحالِ مطلقًا، فأجابها صلى الله عليه وسلم بالمنعِ، فدلَّ على منعِهِ مطلقًا، ولا دليلَ على ما قالوا منَ التفريقِ، واللهُ أعلمُ.
وأحسنُ مسالكِ الجمعِ بينَ الحديثينِ هوَ أنْ يقالَ: إنَّ المنعَ الواردَ في قصةِ المرأةِ إنما كانَ لأنهُ يمكنُ اندفاعُ ضرورتها بغيرِ ما حَرُمَ عليها، فإنَّ الضرورةَ لا تبيحُ المحرمَ إلا بشرطينِ:
الأولُ: ألَّا يمكنَ اندفاعُ الضرورةِ بغيرِ هذا الحرامِ.
الثاني: أنْ يُتيقَّنَ اندفاعُ الضرورةِ بهذا المحرمِ.
وأشارَ إلى هذا ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ، فقالَ: «وأجابوا عنْ قصةِ المرأةِ باحتمالِ أنَّهُ كانَ يحصلُ لها البرءُ بغيرِ الكحلِ؛ كالتضميدِ بالصبرِ ونحوِهِ». فتح الباري 9/488. فعلى هذا: إنْ كانَ يمكنُ إزالةُ الضررِ بأيِّ مزيلٍ غيرِ الكحلِ، فإنهُ لا يجوزُ استعمالُهُ، لا ليلًا ولا نهارًا؛ لاندفاعِ الضرورةِ بغيرهِ، ولا شكَّ أنَّ ما ذكرَهُ ابنُ عبدِ البرِّ منْ كونِ المعنى يشهدُ لحديثِ الإباحةِ عندَ الضرورةِ، لا معارضَ لهُ بعدَ هذا التوجيهِ.
وقدْ ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ إلى أنهُ لا يجوزُ للحادةِ في حالِ الضرورةِ استعمالُهُ إلا في الليلِ، وتمسحُهُ في النهارِ. وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أنها إنِ احتاجتْهُ بالنهارِ استعملتْهُ. قالَ الباجيُّ رحمهُ اللهُ: «وذلكَ عندي إذا لمْ تدعُ إلى إيقاعِهِ بالنهارِ ضرورةٌ منْ شدةِ مرضٍ، ومخافةٍ على البصرِ، وبذلكَ قالَ سالمٌ وسليمانُ: إنها إذا خشيتْ على بصرِها أنها تكتحلُ، ولمْ يخصَّا كحلًا منْ كحلٍ، وإنما بحسبِ المرضِ، وما تدعو الضرورةُ إليهِ، وإباحةُ ذلكَ وإنْ كانَ في الكحلِ والدواءِ طيبٌ، وأشارَ مالكٌ إلى أنَّ ما أباحَهُ منْ ذلكَ للضرورةِ، فإنَّ دينَ اللهِ يسرٌ. المنتقى 4/146.
وقدْ نقلَ الحيميُّ عنِ ابنِ عبدِ البرِّ نحوَ ما تقدمَ، فقالَ: «والإباحةُ في الليلِ لدفعِ الضررِ بذلكَ، فلو كانَ لا يغني الوضعُ بالليلِ، جازَ لها في النهارِ، والضرورةُ تنقلُ المحرَّمَ إلى الإباحةِ». الروض النضير 4/127.
وفي هذا النقلِ نظرٌ، ووجهه: أن الذي في التمهيد 17/319 غير المنقول؛ فإن كلامه هناك في التوفيق بين حديث المنع من الكحل مطلقًا وبين حديث الترخيص، ولم يتعرض لاستعماله بالنهار، فلْيُتأمَّلْ. ويحتمل أن يكون نقله من موضع آخر. وعلى كلِّ حالٍ: فإنَّ هذا القولَ يؤيدُهُ أنهُ لما جازَ الأصلُ، وهوَ إباحتهُ للضرورةِ في الليلِ، فإنها إنْ دعتِ الضرورةُ إلى استعمالِهِ في النهارِ فلا بأسَ بهِ؛ لأنَّ الضروراتِ تبيحُ المحظوراتِ، والضرورةُ تُقدَّرُ بقدَرها، لكنْ ليسَ منَ الضرورةِ تعجيلُ البرءِ، فلوْ كانَ استخدامُهُ في الليلِ يرفعُ فقط الداءَ، لكنْ يؤخرُ البرءَ، لمْ يجزْ لها استعمالُهُ في النهارِ؛ نزولًا عندَ النصِّ. وقدْ ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى جوازِ الكحلِ عندَ الضرورةِ ولوْ كانَ مطيبًا، والصوابُ عدمُ جوازِهِ، إلا إنْ كانَ للطيبِ أثرٌ ضروريٌّ في العلاجِ، واللهُ أعلمُ.